إسطنبول | على الرغم من أن الانفتاح التركي على المنطقة العربية كان قد بدأ بسوريا في كانون الثاني 2003، عندما زار رئيس الوزراء آنذاك عبد الله غول دمشق في إطار جولته الإقليمية لمنع الحرب على العراق، إلا أن أنقرة لم تتأخر في إقامة علاقات خاصة مع بغداد، حتى في ظل الاحتلال الأميركي للعراق. فقد وافق البرلمان التركي في 20 آذار 2003 على فتح المجال الجوي التركي أمام الطائرات والصواريخ الأميركية لضرب العراق بعد 3 أسابيع من قراره بمنع نشر القوات البرية الأميركية على الأراضي التركية إبان تلك الحرب. كذلك دخلت أنقرة على الخط بسرعة، لتكون المستفيد الأول والأكبر من الصفقات العراقية - الأميركية التي حققت من خلالها للشركات التركية المليارات من الدولارات، ليس عبر الحكومة المركزية والإدارة الأميركية، بل عبر إقليم كردستان، حيث وصل عدد الشركات التركية العاملة إلى 200 شركة على الأقل في مختلف القطاعات. وكان لهذه المعطيات، وبالتالي للعلاقة المباشرة للعراق بالمواضيع الأمنية التركية بسبب وجود عناصر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، دور أساسي في قرار أنقرة بإقامة علاقات مميزة وتطويرها مع جميع الأطراف العراقية، وخاصة بعد أن طورت علاقات مميزة مع دمشق التي أولتها حكومة رجب طيب أردوغان أهمية خاصة في مجمل تحركاتها وحساباتها الإقليمية التي لم تهمل بغداد (العباسية) وطهران الفارسية. ويفسر ذلك أن أردوغان كان قد وقّع 52 اتفاقية للتعاون الاستراتيجي مع العراق، وقبل سنة مع سوريا، الحليف الأهم بالنسبة إليها. وكان للمصالح الاقتصادية الاستراتيجية بين تركيا والعراق دور أساسي في مثل هذا الترجيح الذي كان له علاقة أيضاً بالملف الكردي، تركياً وعراقياً، حيث إن المنطقة الكردية العراقية مليئة بالنفط الذي يفتح شهية الأتراك. وجاءت الأزمة السورية لتضع كل هذه المعطيات، ومعها العلاقات التركية المتشابكة مع قطر والسعودية ودول الخليج، أمام تحديات صعبة ومعقدة جداً بسبب جهل الطرف التركي بخفايا المنطقة العربية وأسرارها. وكانت المسميات الطائفية والقومية كافية بالنسبة إلى أردوغان حتى يهاجم نوري المالكي وحكومته في أكثر من مناسبة، باعتبارها تدعم دمشق وتحولت إلى ممر للدعم الإيراني للنظام السوري، من دون أن يخطر بباله أن العراق ممر أخطر لعناصر القاعدة الموجودين فيه. كذلك لم يخطر بباله أن تركيا هي الممر الأخطر بالنسبة إلى كل الجهاديين التكفييرين الذين دخلوا سوريا باسم الإسلام ليقاتلوا الرئيس بشار الأسد المدعوم من حزب الله وإيران. وهي الادعاءات التي كررها أردوغان وأعضاء حكومته في أكثر من مناسبة ضد هذا الثلاثي إيماناً منه بأنهم جميعاً خطر على الإسلام والمسلمين عقائدياً لا سياسياً. فهو لم يتحدث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والدولة المدنية في سوريا، بقدر ما هاجم الأسد شخصياً.
وجاءت التطورات الأخيرة بعد سقوط محمد مرسي والاتفاق الروسي – الأميركي ومساعي التمرد السعودي المضحك عليه، ومن ثم فشل كل المشاريع التركية والإقليمية والدولية للتخلص من الأسد، لتدفع أردوغان وأحمد داوود أوغلو إلى إعادة النظر في الموقف التركي، ولو بشكل غير مباشر، بعد أن تحول الحليف الأهم، قطر إلى ورقة خاسرة في مجمل الحسابات الخاصة بسوريا والمنطقة عموماً. وجاء القرار التركي بفتح الخط مع بغداد في إطار التكتيك التركي «العثماني» التقليدي، ويهدف إلى تحقيق التوازن الجديد في العلاقات التركية - العراقية، وبالتالي العودة إلى المنطقة تدريجاً عبر البوابة العراقية «العباسية»، المنافس التقليدي لـ«دمشق الأموية».
ويعتقد المسؤولون الأتراك أن العراق أيضاً، بكل مكوناته، على استعداد لتقبّل العلاقة الجديدة مع أنقرة، ما دامت لا تزال تحظى بدعم واشنطن على الصعيدين الداخلي والخارجي. يضاف إلى ذلك أن أنقرة، من خلال سياساتها الجديدة، ستقول للمالكي إنها لن تفعل أي شيء في العراق إلا عبر الحكومة المركزية التي سبق لها أن عبّرت عن انزعاجها من العلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وأربيل على جميع الصعد، من دون أن تتجاهل أنقرة حساباتها الخاصة بكل مفاجآت الملف الكردي داخلياً وإقليمياً، بعد أن فشلت في كسب أكراد سوريا إلى جانبها في مساعيها لإسقاط نظام الأسد، فضلاً عن احتمالات فشل المصالحة التركية مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان.
ودفعت كل هذه المعطيات، واحتمالات الابتعاد عن السعودية وقطر، أنقرة إلى وضع العديد من البدائل السياسية في علاقاتها الإقليمية، وخاصة بعد الحديث عن احتمالات المصالحة الإيرانية مع أميركا، وهو ما قد يعني خريطة سياسية جديدة في المنطقة يريد أردوغان أن يكون له فيها أيضاً دور رئيسي، وهذه المرة عبر طهران وبغداد، بعدما جربت الرياض والدوحة.
وقد يعني ذلك أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، يريد لتركيا أن تبقى ضمن اللعبة الأميركية الجديدة، التي تتضمن ربما عودة أنقرة إلى وضعها الطبيعي في العلاقة مع دمشق عبر العراق، لا إيران، وخاصة أن رغبة واشنطن في مواجهة المجموعات الإسلامية المتطرفة في سوريا تتطلب تعاوناً تركياً واسعاً ومطلقاً.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن استعداد أردوغان لأن ينسى ما قاله المالكي عنه ذات يوم، يعني أنه مستعد لأن ينسى ما جاء على لسان الأسد في الموضوع نفسه.
ويبقى الرهان على موقف طهران التي يعرف الجميع مدى علاقاتها الاستراتيجية ببغداد. ويتوقع أن يصل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أنقرة هذا الأسبوع ليسمع من المسؤولين الأتراك ما سيقولونه أو يفكرون فيه، في ما يتعلق بالمرحلة المقبلة.