فرنسا هي من بين الدول التي تجسّست عليها «وكالة الأمن القومي» الاميركية (إن إس إي). الخبر ليس جديداً، فهذا بالضبط ما أظهرته بوضوح، منذ أيار الماضي، الوثائق التي سرّبها الموظف السابق في الوكالة إدوارد سنودن. الفضيحة التجسسية الدولية تتالت فصولها، وفرنسا كانت حاضرة في معظم الوثائق كنظام «مستهدف» بالتجسس وكدولة مصنّفة من قبل واشنطن «عدواً يجب مهاجمته» كما جاء حرفياً في التسريبات.
لم تشعر باريس أنها مهددة حينها ولم يرفع الرئيس فرانسوا هولاند أي شكوى مباشرة لنظيره الأميركي باراك أوباما ولم يحشد لتحريك مجلس الأمن، بل اكتفى بـ«رفض» شفهي واستنكار باهت. حينها، كان هناك خطر أوحد يحدق بفرنسا والبشرية وهو نظام بشار الأسد.
تتالت الفضائح التي طالت فرنسا والاتحاد الاوروبي بين أيار وحزيران وتموز الماضي، وأظهرت الوثائق التي تكفّل بنشرها الإعلام البريطاني والألماني (لا الفرنسي حينها)، أن الوكالة الاستخبارية الاميركية زرعت ميكروفونات سرية في مبنى «الاتحاد الأوروبي» في واشنطن وفي مكاتب الاتحاد في الأمم المتحدة في نيويورك وحتى في مبنى البعثة الرئيسية في بروكسل، لكن أحداً لم يتحرك جدّياً. اخترقت الوكالة الاستخبارية نظام البعثة الاوروبية المعلوماتي والبريد الإلكتروني لكافة الوفود الأعضاء، والوفد الفرنسي ضمناً. تنصّتت واشنطن أيضاً على محادثات الوفود الاقتصادية الفرنسية المشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة. وتجاه كل ذلك، اكتفى هولاند ووزير خارجيته لوران فابيوس بالاستنكار الشفهي. ثم جاءت فضيحة برنامج «بريسم» التجسّسي الذي تعتمده «إن إس إي» ليشمل جميع مستخدمي «مايكروسوفت» و«آبل» و«غوغل» و«ياهو» وغيرها في أنحاء العالم، أي المواطنين الفرنسيين ضمناً. جُلّ ما قامت به الحكومة الفرنسية حينها كان الدعوة الى تأجيل انعقاد المحادثات حول إقامة منطقة للتبادل الحر بين ضفتي الأطلسي، ولم تستجب دعوتها فعقدت القمة بمشاركة الفرنسيين. ثم في تموز فتح الادعاء الفرنسي تحقيقات أولية حول برنامج «بريسم». لم تقدّم فرنسا أي شكوى رسمية ضد الولايات المتحدة ولم تقطع علاقاتها الدبلوماسية معها بعد وابل الفضائح الذي هدّد أمنها وسيادتها بنحو مباشر. فما الذي استجدّ أمس، ودفع الخارجية الفرنسية الى استدعاء السفير الاميركي في باريس على خلفية فضيحة جديدة من سلسلة فضائح تجسّس «إن إس إي»؟
الجواب يحتمل ثلاث فرضيات: الأولى هي أن الفضيحة الجديدة التي كشفت أمس خطيرة جداً بحيث لا يمكن السكوت عنها والاكتفاء بتسجيل استنكار شفهي كما كان يحصل في السابق، والثانية هي سياسية بحتة، والثالثة تجمع الفرضيتين السابقتين معاً.
الفرضية الأولى تبدو ضعيفة وحدها، خصوصاً إذا قورن ما نشرته صحيفة «لو موند» أمس بما كشفه الإعلام البريطاني والألماني قبل 5 أشهر (بعضه ذكر أعلاه ــ راجع «الأخبار» عدد 11 تموز 2013). تحقيق «لو موند» أكّد أمس ما كان كُشف سابقاً حول قيام «وكالة الأمن القومي» الاميركية بالتجسس على الفرنسيين، مسؤولين ومواطنين. جديد «لو موند» أنها حصلت على بعض الوثائق المسربة وكشفت من خلالها أن الوكالة الأميركية سجلت 70,3 مليون تسجيل لاتصالات هاتفية قام بها الفرنسيون طيلة ثلاثين يوماً بين 10 كانون الاول 2012 و8 كانون الثاني 2013.
وتصف تلك الوثائق التقنيات المستخدمة بطريقة غير شرعية لرصد أسرار الحياة الخاصة للفرنسيين، والتي تحدّثت عنها التسريبات السابقة. وهنا شرحت «لو موند» أن «إن إس إي» تستخدم عدّة طرق لجمع المعلومات، إحداها تقوم بتفعيل إشارة تطلق تلقائياً عملية تسجيل المكالمات عندما يُطلب بعض الأرقام الهاتفية في فرنسا إضافة الى التنصت على الرسائل الهاتفية القصيرة ومضمونها بالاستناد الى كلمات مفاتيح. وتقوم «إن إس إي» مباشرة وبنحو منهجي بالاحتفاظ بسجلّ الاتصالات لكل رقم مستهدف.
وحسب «لو موند»، فإن الوثائق التي حصلت عليها تدفع الى الاعتقاد بأن أهداف «وكالة الامن القومي» الاميركية «تشمل أشخاصاً يشتبه في علاقتهم المفترضة بنشاطات إرهابية أو لمجرد انتمائهم الى أوساط البزنس أو السياسة أو الى الإدارة الفرنسية».
ويظهر الرسم البياني لـ«إن إس إي»، بحسب الصحيفة، رصد معدل ثلاثة ملايين معطى يومياً مع تسجيل أرقام قياسية بلغت 7 ملايين في 24 كانون الاول 2012 و7 كانون الثاني 2013.
ويندرج التجسّس في برنامج عنوانه «يو اس ــ 985 دي». ولم تستطع «لو موند» تفسير معناه بدقة حتى الآن، لكنها قارنت بينه وبين الأسماء التي استخدمتها الوكالة الاميركية لطريقة الرصد نفسها التي استهدفت ألمانيا وهي «يو اس ــ 987 ال ايه» و»يو اس ــ987 ال بي». ورجّحت الصحيفة أن تكون سلسلة الارقام تلك تطابق الدائرة التي تصفها الولايات المتحدة بأنها «الطرف الثالث» الذي تنتمي اليه فرنسا وألمانيا والنمسا وبولندا وبلجيكا. أما «الطرف الثاني» فقد يخصّ البلدان الانغلو ــ سكسونية القريبة تاريخياً من واشنطن مثل المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والمعروفة باسم «فايف آيز» (العيون الخمس) بينما يشير «الطرف الاول» الى أجهزة الاستخبارات السرية الاميركية.
إذاً، ما كشفته «لو موند» عن تجسس واشنطن على الفرنسيين واختراق خصوصياتهم الهاتفية من دون علم الحكومة الفرنسية، وبالتالي الاعتداء على سيادة فرنسا، هو قديم ــ جديد يمثّل حلقة أخرى مما فُضح مسبقاً لكن مع تحديد رقم ضخم في عدد المتجسَّس عليهم بنحو مباشر على الأراضي الفرنسية.
وإضافة الى «الصدمة» التي عبّر عنها كل من رئيس الوزراء جان مارك إيرولت ووزير الداخلية مانويل فالس ومطالبتهما واشنطن بـ«أجوبة واضحة» عن تلك الممارسات، تحرّكت الخارجية مع إعلان الوزير لوران فابيوس استدعاء السفير الأميركي في باريس تشارلز ريفكين للاحتجاج على ما جاء في تقرير «لو موند». تصعيد دبلوماسي يواكب وصول وزير الخارجية الأميركي جون كيري الى باريس في جولة لبحث الأزمة السورية مع مسؤولين عرب وأوروبيين. وهنا تأتي الفرضية السياسية.
سياسياً، يطرح نشر «لو موند» نتائج الوثائق التي حصلت عليها منذ شهر آب الماضي بعض علامات الاستفهام، خصوصاً أن تلك الصحيفة الفرنسية أدّت دوراً جريئاً في فترة حساسة جداً. في أواخر أيار الماضي ــ أي في أوج فترة الإعداد لاتهام الأسد باستخدام السلاح الكيميائي ــ تطوّعت الصحيفة من خلال مراسليها في سوريا في تقديم عيّنات «تثبت أن النظام السوري استخدم مادة السارين في ريف دمشق» (راجع «الأخبار» عدد 30 أيار 2013). تعاملت «لو موند» مع الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت وسلّم صحافيّوها مواد قالوا إنهم جمعوها من قرى ريف دمشق الى وزارة الدفاع الفرنسية «لتفحصها في مختبراتها». وبعد أيام على إعلان الصحيفة الأمر على صفحاتها، طلب وزير الخارجية الاميركي من نظيره الفرنسي «إطلاعه على المعلومات التي جمعتها باريس بشأن استخدام غاز السارين في النزاع السوري». كانت تلك واحدة من جولات التطوع الفرنسي لخدمة الـ«بيغ بروذر». حصل ذلك في ليبيا ومالي، وآخرها تزعّم باريس للحملة الداعية إلى عدوان على سوريا، قبل أن يخذلها الحليف الأميركي ويترك هولاند وحيداً في فوهة المدفع.
«لو موند» رفعت أمس شعاراً لم ترفعه منذ بدء تسريب فضائح التجسس الاميركي، فكان عنوان افتتاحيتها «محاربة بيغ بروذر»، وكانت صورة موضوعها الأساسي عن التجسس رسماً كاريكاتورياً للرئيس الأميركي أوباما يقول «بيغ بروذر يراقبكم».
فهل أرادت «لو موند» أن تستقبل كيري بفضيحة إعلامية بعدما فشلت «عيّناتها» في التجييش لضربة عسكرية على سوريا؟ وهل أراد فابيوس من خلال استدعاء السفير الأميركي إيصال رسالة ضاغطة الى نظيره الاميركي الذي يبحث الملف السوري على الأراضي الفرنسية؟ هل تنتقم فرنسا ممن تركها وحيدة في حملة شنّ حرب دولية على سوريا؟
يبدو أن الفرضية الثالثة التي تجمع الاحتمالين السابقين هي الأوفر حظاً، إذ إن فضائح «وكالة الأمن القومي» لم تنته بعد والأزمة السورية ذاهبة، حتى الآن، الى غير ما تشتهيه فرنسا فرانسوا هولاند.


يمكنكم متابعة صباح أيوب عبر تويتر | SabahAyoub@





طلب ضمانات

طلبت فرنسا أمس رسمياً من السفير الاميركي تشارلز ريفكين، بعد استدعائه الى مقر الخارجية، أن يقدم لها ضمانات بعدم إجراء تنصّت على اتصالات فرنسيين بعد الآن. وقال المسؤول في الخارجية أليكساندر جيورجيني «ذكّرناه بأن هذا النوع من الممارسات بين شركاء غير مقبول البتة». وسيبحث وزير الخارجية لوران فابيوس هذا الموضوع مع نظيره الأميركي جون كيري في لقاء مرتقب في مقر الخارجية الفرنسية اليوم قبل اجتماع لـ«أصدقاء سوريا» في لندن. وسبق أن استُدعي السفير الأميركي في الاول من تموز الماضي ليقدم توضيحات في أعقاب كشف المعلومات الاولى حول ممارسات وكالة الامن القومي الاميركية. من جهته، ردّ البيت الأبيض على الموضوع بالقول إن واشنطن تجمع من الخارج معطيات «من النوع نفسه الذي تجمعه كل الدول».