«خسارة غير مبررة وغير ضرورية». هكذا اختصر الرئيس باراك أوباما ما تكبدته البلاد من جراء الشلل المؤقت الذي اصاب حكومتها خلال أكثر من أسبوعين بسبب تعنّت المحافظين الجمهوريين ورفضهم لمشروع الرئيس الخاص بالرعاية الصحية الشاملة.
بعد التوصل إلى اتفاق شمل إعادة الحياة إلى الدوائر الحكومية ورفع السقف المتاح للاستدانة عاد أكثر من 800 ألف موظف عام إلى أشغالهم أمس ومُنحت وزارة الخزانة صلاحية الاستمرار بالاقتراض بعد أن يصل الدين إلى سقفه المتاح وهو 16.7 تريليون دولار.
غير أن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد من جراء آخر جولات الحرب المستمرة منذ عام 2009 كبيرة، وفقاً لما أشار إليه الرئيس الديموقراطي في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض أمس.
«اليوم يقول نصف المديرين التنفيذيين (في الشركات الأميركية) إن خططهم للتوظيف خلال الأشهر الستة المقبلة، تأثرت نتيجة إقفال الحكومة او التهديد بذلك».
الخسارة كبيرة فعلاً، بحسب تقديرات شركة التصنيف الائتماني والاستشارات المالية S&P، تبلغ 24 مليار دولار؛ وهذه نتيجة العرقلة لأسبوعين فقط.
الأرقام تبدو ألطف بحسب دراسة أشمل نفذتها شركة الأبحاث والاستشارات الاقتصادية، Macroeconomic Advisors، تقول إن الشلل المؤقت كلف البلاد 0.3 نقطة مئوية من النمو الذي تسجله في هذا الفصل، أي ما يعادل 12 مليار دولار (وهي خسارة بمعنى النمو غير المحقق خلال أسبوعين فقط).
وفي الواقع هذه الخسارة ليست سوى آخر الفصول الحمراء من تدهور في السمعة وفي الأداء المؤسساتي تعيشه البلاد منذ سيطر الجمهوريون على مجلس النواب وأطلقوا حملة مشاكسة ضد سياسات البيت الأبيض ازدادت عدائية مع وصول استحقاق بتّ مشروع الرئيس للرعاية الصحية منخفضة التكلفة إلى النواب.
بحسب الدراسة نفسها، فإنّ الريبة التي تسود الولايات المتحدة والمعارك الحزبية المختلفة التي شهدها الكونغرس على سقف الدين، الموازنة والمشاريع التنموية كلفت البلاد 700 مليار دولار واكثر من مليوني وظيفة خلال السنوات الثلاث الماضية.
اليوم يُمكن التهكم قدر الإمكان على آليات السياسة في واشنطن؛ تلك العاصمة التي تسعى لنشر مبادئ الحكومة والإدارة الرشيدة حول العالم. صحيح أن الازمة حُلت ولكن الخطر لا يزال قائماً إذ إن الاتفاق مؤقت ويجب التوصل إلى حلّ جديد مع بداية العام المقبل وإلا فعود على بدء.
الحقيقة هي ان الازمة أظهرت أن أميركا تقف عند نقطة حرجة على مستوى السياسة الداخلية، يُمكن عنونتها بالتالي: باراك أوباما في مواجهة العبثية.
ورغم كل هذا النزف الداخلي ــ الذي يزيد وهن الولايات المتحدة على الساحة الدولية في ظلّ تَعزّز بصمة قوى أخرى على رأسها الصين ــ يستمر الجمهوريون بوضع هدف خفض العجز العام في مرمى نيرانهم. وفي الحقيقة عمدت إدارة باراك أوباما إلى خفض العجز إلى النصف خلال السنوات الأخيرة، ربما طمعاً ببعض الدعم من المخيم الآخر أو طلباً لهدوء الانتقادات الحادة ضد سياستها التوسعية.
«الخبر الجيد هو أننا سنتخطى هذه المحنة؛ نحن أمة التي لا يمكن التخلي عنها للاستثمار» جزم باراك أوباما. «لقد استحقينا تلك المسؤولية خلال قرنين بسبب دينامية شركاتنا ونظامنا، ولكن أيضاً بسبب الثقة بنا للوفاء بالتزاماتنا، وهذا ما أريد تأكيده اليوم». ولذا وجّه رسالة «إلى الأصدقاء في الكونغرس» مفادها: «يجب أن تتغير آلية تنفيذ الأعمال في واشنطن».
حدّد الرئيس ثلاثة أهداف يجب العمل على تحقيقها حتّى نهاية العام الجاري. أولاً، النقاش الجدي للتوصل إلى مقاربة مسؤولة لموازنة شاملة. «النقاش يجب ألا يتخذ طابعاً إيديولوجياً حيث يُصر فيه طرف على ضرورة خفض الإنفاق العام فقط بهدف خفضه» من دون التنبه إلى عواقب الأمر.
ثانياً، يجب الانتهاء من إصلاح نظام الهجرة وخصوصاً أن مجلس الشيوخ مرر قانوناً شاملاً يُحدد الدقائق المختلفة لهذا الملف الشائق ومنها تكليف المهاجرين غير الشرعيين بهدف دمجهم نهائياً في نسيج المجتمع. «إصلاح كهذا سيكون له مردود يُقدره الاقتصاديون بـ1.5 تريليون دولار خلال العقدين المقبلين».
ثالثاً، إقرار قانون خاص بقطاع الزراعة يُحفز الإنتاجية. «هنا أيضاً أقر مجلس الشيوخ مشروعاً متفقاً عليه، واليوم يبقى في ادراج مجلس النواب».
«أفهم أننا لن نتفق على كل شيء، يُمكننا مناقشة تلك الاختلافات عبر العملية الديموقراطية». هكذا توجه الرئيس إلى خصومه السياسيين. غير أن النقطة الأساسية في خطابه تمثلت في حجته لصالح الدولة. «آمل أن نكون قد تعلمنا أن الحكومة مهمة والا نتعاطى معها على أنها العدو» قال اوباما. «إن العاملين في الحكومة هم من يضمنون أمننا، سلامة غذائنا، نظافة هوائنا، تطورنا العلمي، ازدهار سلعنا في الخارج».
وانتقد الرئيس الجمهوريين على نحو قاس: «إذا لم يعجبكم رئيس معين فناقشوه واربحوا انتخابات، ولكن لا تزيدوا الأمور سوءاً لأن ذلك يخالف أسس هذه البلاد». المهم «ألّا يتحول الاختلاف إلى الكراهية». لا يُمكن للرئيس ضمان ألا يعمد الجمهوريون ــ او الجناح المتشدد بينهم بالحد الأدنى ــ إلى الخيار الذي اعتمدوه وعطل الحكومة 16 يوماً وهدد البلاد بالدخول في نفق لا أموال فيه لتسديد فواتير الحكومة. غير أنه يعي في الوقت نفسه أن ساسة أميركا من حزب الفيل لا يُمكنهم المخاطرة بصيتهم أكثر مما حصل. إذ إن ما يُمكن تأكيده اليوم هو أن الحزب الجمهوري خسر من شعبيته على نحو فادح. بحسب استطلاع للرأي أجرته شركة «غالوب» فإن شعبيته هوت إلى 28% فقط؛ فيما تخلص ابحاث أخرى إلى أن النسبة هي دون 25% حتّى.
اليوم يطرح جمهوريون كثر تساؤلات حول مستقبل حزبهم بعد أزمة افتعلها ولم يجن منها سوى الخسارة الإضافية! «إذا لم نكن حذرين فإنّ ما حدث يُمكن أن يُطلق موجة استياء قد تطيح الغالبية الجمهورية في مجلس النواب» وفقاً للنائب الجمهوري عن لويزيانا، لبناني الجذور، تشارلز بستاني.
ويذهب المتشددون في الحزب أبعد من ذلك ويتساءلون عما إذا كان جميع الجمهوريين محافظين فعلاً، أم أن هواء أوباما لفحهم ليبرالياً.