تشير آخر التحليلات من العاصمة واشنطن الى أن اجتماعات عدة عقدت خلال العشرة أيام الماضية لبعض الجمهوريين وحزب الشاي تقرّر خلالها عدم التهاون مع الرئيس باراك أوباما حتى آخر لحظة، من أجل ضرب صورته وتأكيد أنه رئيس ضعيف يتراجع معهم تحت الضغط كما فعل في «تسوية الكيميائي» في سوريا أمام قيصر روسيا ووزير خارجيته.
أوباما من جهته، مصرّ على عقد جلسة لمجلس النواب لأنه يعتقد أن برنامج موازنته سيمرّ ولو بصوت واحد، لأن هناك فراغين في عدد كراسيه وبالتالي يحتاج إلى 218 صوتاً للفوز (وهو تماماً ما سيحصل عليه في حال صوّت، كما هو متوقع، 15 جمهورياً لصالح الخطة)، بينما العدد المطلوب 217 صوتاً.
جون بوينر، رئيس مجلس النواب الجمهوري، لا يزال يرفض الجلسة مع العلم أنه يوافق على أن تهديدات جدية ستطرأ على الاقتصاد قد تؤدي إلى ركود وانهيار أسواق وارتفاع بطالة. أما الجمهوري تيم هولسكمب، فيتهم الأسواق المالية بمحاولة الاستفادة من خلال المضاربة والضغط على الجمهوريين من أجل قرارات غير مجدية.
الأهم من وجهة نظر الطرفين، أن صورة أميركا تشوّه حالياً وقد تتغيّر أبدياً في حال لم يتم رفع سقف الاستدانة على الأقل كحل تسووي تتم بعدها المفاوضات على بنود قانون الموازنة وخطة الطبابة.
باعتراف جميع خبراء المال، فإن سندات الخزينة الأميركية تُعتبر المقياس المرجع لكل مديونيات العالم. فالعائد عليها هو البارومتر الذي منه تُحسب عائدات أو فوائد المديونيات الأخرى. لذلك فإن العالم كله، لا الولايات المتحدة فقط، معني بضرورة التوصل إلى حل للشأن الداخلي وأن لا يكون الاستقرار العالمي مرتبطاً بقضايا تافهة (بالمفهوم الدولي) يتعلق بالصراع السياسي الداخلي في واشنطن. الصين وحدها تملك ما بين 2 و3 تريليونات دولار من سندات الخزينة الأميركية (الرقم الثابت سرّ قومي صيني)، فضلاً عن ملكية كل النظام المصرفي الدولي لتلك السندات. سيناريو التخلّف عن السداد بالتالي كابوس عالمي لا محلي فقط. لذلك صدرت تصريحات من الصين ومن مسؤولة صندوق النقد الدولي كريستيان لاغارد، حول ضرورة تخطي هذه المرحلة لما لها من تأثير على الاستقرار المالي العالمي.
أوباما هو الهدف الرئيسي. أموال ولوبيات تعمل من أجل ورم خدّه الثاني بعد تورّم خدّه الأول في ساحة سوريا الدولية. المفارقة أن مَن يلكمه داخلياً ينتقم من أوباما لعدم قدرته على الدفاع عن نفسه من اللكمة الخارجية. هنا تلتقي مصالح منافسي الداخل مع منتقمي «تقاعس» أوباما الخارجي. لقد لاحظ بعض محللي السياسات الدولية أن هناك جهداً مشتركاً بين مَن يريد الانتقام من أوباما مشرقياً بدءاً بإسرائيل مروراً بالخليج وتركيا، وبين مَن يريد تحجيمه أميركياً.
من هنا يعود هؤلاء المحللون الى تفصيل ما بعد مرحلة «تسوية الكيميائي»، وما ستُفضي إليه، بغضّ النظر عن محاولات هذا الفريق لتقليل الخسائر، أو لذلك الفريق باستثمار أرباح التغيير.
سعودياً، أمور عدة ستنجلي في الأشهر المقبلة. فهذه المملكة التي تُعتَبر قلب ورئتي الخليج العربي التي لم تنكشف سياسياً في مواقفها تجاه أي شأن أو أزمة عربية، كما فعلت أخيراً في سوريا، منذ حرب اليمن، كانت لسنوات على مسافة متوازنة مع كافة الفرقاء، تحاول فرض رغباتها أو إرادتها بهدوء وعبر الإغراءات الصامتة وكواليس أجهزة الاستخبارات. إعلامياً كانت المملكة رمزاً اعتدالياً بامتياز.
اليوم، وبحسب تصريحات بعض مسؤوليها، يوحي هؤلاء وكأنهم في حرب وجودية وضعوا أنفسهم فيها من غير الاضطرار لذلك. البعض الآخر يتصرف وكأنه آمر أو على الأقل فاعل في الإدارة الأميركية أو الغربية.
جنح بعض مسؤولي المملكة إلى اصطفافها، في وقت كان ممكناً لها أن تستثمر كل رصيدها السابق (الغير المالي). المعلومات تشير إلى أن بعض أصحاب القرار اليوم أوعزوا بضرورة إجراء تقييم شامل لكل المرحلة الحالية وتقديم توصيات لسيناريوهات عدة محتملة مستقبلاً.
وهناك إشارات واضحة الى أن هناك خلافاً ما في وجهات النظر نتيجة كل ما حصل، وما أدى إلى تموضع المملكة في غير مواقعها التاريخية، مما سيؤدي إلى تحولات جذرية في هيكلية الحكم الملكي فيها منذ أيام الملك عبد العزيز. فنجم أولاد الملك فهد كان قد بدأ بالأفول بعد وفاة والدهم، وتم تعيين الأمير عبد العزيز بن فهد، صغير أولاده، في منصب وزاري معنوي نتيجة محبة أبيه الاستثنائية له. المعلوم أيضاً أن الملك الحالي عبد الله بن عبد العزيز، قد حجّم دوره في السنوات الأخيرة بسبب عدم التزام الأمير معايير ملكية معيّنة.
كذلك يندرج الأمر على أولاد ولي العهد السابق المتوفى الأمير سلطان بن عبد العزيز. أبرز الأولاد كان الأمير خالد بن سلطان الذي أُقيل من منصبه كمساعد لوزير الدفاع من دون حتى إعطائه فرصة الاستقالة. أخوه الأمير بندر بن سلطان في موقعه كمسؤول أول عن الأمن القومي، وصل إلى هذه المسؤولية نتيجة التقاطع في المصالح الأميركية ــ السعودية وليس لأسباب داخلية بحت. لقد عوّلت عليه مملكته وكذلك الأميركيون، في رسم خريطة النفوذ الإقليمية وخاصة في الملف السوري. يؤكد البعض أن الجهات المعنية لإعادة تقييم المرحلة السابقة ستنظر في مسؤولية تدهور مواقع المملكة الحالية إقليمياً ودولياً.
ولا يمكن السعودية، على ما يظهر، إلا تعويم الجناح المؤيّد للتسويات في المنطقة، والمتمثّل في أبناء الملك عبدالله.
الخلاف السعودي ــ الأميركي في ذروته نتيجة عدم فهم الطرف السعودي أن مَن يحكم الولايات المتحدة هو مصالحها بالدرجة الأولى حتى العاشرة، بعدها تنظر إلى رغبات مَن يهمها أمرهم.
بعض المسؤولين السعوديين والخليجيين، خصوصاً والعرب عموماً، يعتقدون بسذاجة بأن الجيش الأميركي والنظام الدفاعي الغربي كله مسخّر لهم لمجرد استيرادهم المواد الاستهلاكية منهم، أو لاستراتيجية النفط الموجود هناك. السبب الأخير صحيح بالتأكيد، ولكن النفط بالدرجة الأولى مؤمّن. يبقى التفصيل في رسم التحالفات القائمة على موازين القوى لديمومة تأمين هذا المخزون الاستراتيجي.
من هنا، يشير البعض إلى تسليم الأمير محمد بن نايف، ملف الأمن الداخلي بامتياز، وتقاعد الأمير سعود الفيصل (آخر أولاد الملك فيصل نشاطاً، بعد تقاعد أخيه الأمير تركي الفيصل مدير الاستخبارات السابق، وانشغال الأمير خالد الفيصل في شؤون مكة)، ثم تعيين الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز، وزيراً للخارجية بعد ترقيته من وكيل للوزارة.
الدور الأبرز المتوقع سيكون للأمير متعب بن عبد الله، الذي حلّ سابقاً مكان والده الملك في رئاسة الحرس الوطني، ليُرقّى أخيراً إلى رتبة وزير للحرس الوطني.
هذا الأمير سيكون أبرز المؤهلين لأن يكون في الصف الأول لحكم المملكة في حال اتُّخِذ القرار النهائي بانتقال السلطة من الجيل القديم إلى الجيل الجديد، كون بعض الأمراء الحاليين المتقدمين في العمر إمّا على خلاف حول آلية الانتقال، أو مُبعدين عن إمكانية تسلّمهم الحكم نتيجة ظروف خاصة لكل منهم؛ مثل الأمير مقرن بن عبد العزيز والأمير طلال. الواضح أن صحة وليّ العهد الحالي الأمير سلمان لن تمكّنه من تولّي الحكم.
لكن بغض النظر عمّا ستؤول إليه الأمور نتيجة معركة سوريا والمسؤولية فيها، والأوضاع الخاصة للعائلة الحاكمة، واهمٌ مَن يعتقد أن المملكة لن تبقى في الأهمية الاستراتيجية الدولية التي تتمتع بها، وبالتالي فإن استقرارها ليس هدفاً محلياً لأهلها فقط، وإنما هو دولي لما يمثله النفط من حاجة عالمية لا مؤشرات في الأفق عن بديل له.
في السياق نفسه، تركيا أردوغان المرفوضة أوروبياً (يتصوّر البعض منافع لو انضمت تركيا بجنوحها الإسلامي الإخواني إلى أوروبا)، تحاول أن ترسم معالم المرحلة المقبلة. الحالم في الأمبراطورية العثمانية، والطامح لحكم سوريا، والمتفائل بدخول آسيا الوسطى كالفاتح، بات وزير خارجيته أحمد داوود اوغلو، في همّ تفسير وتعليل ما حصل في أوساطه الداخلية.
سوريا أصبح هاجسه الأول أن يدفع ثمن مواقفه فيها، خاصة أن الأزمة في سوريا ومضاعفاتها كشفت هشاشة الواقع الاجتماعي التركي، والذي ما كان لينكشف لولا سياسة أردوغان ووزير خارجيته. أول الشامتين هو رئيسه عبد الله غول، الذي بدأ محاولة إعادة نسج علاقات دمّرها الفريق الأردوغاني، بدءاً بإيران وصولاً إلى مصر والسعودية والخليج.
وإذا كانت روسيا والصين جادتين، يمكن مصر أن تعيد النظر في اصطفافها الجيواستراتيجي، والخروج من معادلة كامب ديفيد.
أما إيران المتجهة الأنظار إليها اليوم أكثر من أية دولة أخرى، فهي أثارت انتباه جميع السياسيين والمراقبين بثبات مواقفها. البعض يقول إن الحصار الشديد قد أفادها بدفعها للاعتماد على التصنيع المحلي في شتى المجالات بدءاً بالعسكرية وصولاً إلى الغذائية.
بريطانيا تعيد العلاقات الدبلوماسية معها بعد أن كانت لا تقبل إلا بسقوط بشار الأسد، ومعاقبة إيران لدعمها له. الغرب بمجموعة «5 + 1» سيعود للتفاوض معها حول الملف النووي وإيجاد حل نهائي له خلال عام قوامه ضمان حرية التخصيب في إيران مقابل التزامها بفتح منشآتها لوكالة الطاقة الذرية.
ثمن هذه الشفافية النووية سيكون رفع العقوبات عنها نهائياً. يقول الإيراني إنه لا تفاوض حول التدريج إلا كآلية لا كهدف. داخلياً، إيران إمّا واقعاً منقسمة حيال الانفتاح الأميركي، وإمّا أنها تلعب بامتياز توزيع الأدوار بين مرشد الثورة وحرس ثوري من جهة وانفتاحيين من جهة أخرى. لكن إيران برهنت بامتياز النظرية التاريخية القائلة إن التفاوض لا يجري إلا مع القوي بغض النظر إنْ كان على حق أم لا، وإن الضعيف، ولو كان محقّاً، لا جدوى من بكائه ولو طال لسنوات.
«التسوية الكيميائية» الأميركية ــ الروسية الظاهر، الأميركية ــ الإيرانية النتائج، ستفضي حسب إجماع المحللين إلى تقارب سعودي ــ إيراني. ماذا يعني كل هذا؟
باتت المعركة في سوريا واضحة المعالم. في ظل الدعم المستمر الخليجي ــ الأميركي للمعارضة المسلحة المنتشرة في أرياف سوريا، لن يستطيع النظام إنهاءها ولو لسنوات. والعكس صحيح. ولكن هذه المعارضة المسلحة تضم اليوم في غالبيتها فئات كبيرة خارجة عن الالتزام والوفاء لرغبات مموليها ومدرّبيها ومخطّطيها. الأخطر من ذلك أنها تسيطر اليوم على مساحات كبيرة جغرافياً على الحدود مع الأردن والعراق وتركيا، التي أصبحت مباشرة في تهديد علني بتفجيرات انتحارية في اسطنبول وأنقرة وإزمير أسوة بكل المناطق العراقية. ولذلك سيضطر مَن سيخلف أردوغان إلى العودة إلى الجيش وتفعيل دوره.
أردنياً، هناك قرار بتحييده عن «أرض الجهاد»
هذه الدول المجاورة لسوريا، بما فيها سوريا الدولة، لم تحتمل حتى اليوم مع إيران إنشاء دولة كردية. هل ستتحمل دولة إسلامية خلافية سلفية مجبولة بكل تناقضات مجتمعاتها المدنية المجاورة؟ الجواب واضح، إن هذه الدول لن تستطيع التعايش مع دولة «داعش» أو جبهة النصرة أو لواء محمد، وما إلى ذلك من فصائل وكتائب تحكم خارج الزمن والجغرافيا، فضلاً عن صراعاتها في ما بينها أو مع الجوار الكردي المهدد.
لذلك، فإن أبرز نتائج التسويات الآتية التي فتحت لها الباب تسوية الكيميائي السوري، ستكون الجهد المشترك بين أخصام الماضي حلفاء الغد، لإنهاء ظاهرة الدولة الغريبة في أرياف سوريا ومنع تفتيت الكيان السوري لما في ذلك من أخطار كحالات فوضى في المنطقة كلها تجعل الإرهاب المُصدّر منها خطراً على السلام العالمي نتيجة سهولة الحصول على الأسلحة التدميرية ومنها الكيميائي، إذ لن يستطيع الغرب حينها عقد صفقة مع التكفيريين للتخلص من أسلحتهم عبر «صفقة كيميائي تكفيري». بالمناسبة، إسرائيل لن تكون بعيدة عن الهدف المشترك أعلاه.