كم تبدو ساذجة تلك التحليلات التي تربط الانفتاح الإيراني المستجد على الولايات المتحدة بشخص الرئيس حسن روحاني. مقاربة كهذه تعني واحداً من أمرين: إما أن الشيخ الرئيس ساحر من الفضاء الخارجي هبط فجأة في الجمهورية الإسلامية فقلب الأوضاع فيها رأساً على عقب، أو أن إيران جمهورية موز تتقاذفها أهواء رؤسائها. والحقيقة لا في هذا ولا في ذاك.
حتى البناء على فرضية أن هذا ما يريده الشعب الإيراني «المقموع» بعدما نجح في التعبير عن أمانيه في انتخابات الرئاسة الأخيرة بإيصال «الشيخ المعتدل» إلى سدة الرئاسة، فيها الكثير مما يقال. من لوازم طرح كهذا الإقرار بما قد لا يتناسب والخطاب الغربي، من مثل أن الشعب الإيراني هو نفسه الذي اختار الرئيس محمود أحمدي نجاد في انتخابي 2005 و2009، صاحب النهج «المتطرف» والسياسات الصدامية. وفي هذه النقطة بالذات ما يؤكد أن الإيرانيين، أفراداً وتيارات سياسية، وإن كانوا يختلفون على عدد هائل من القضايا المهمة، إلى حدّ التناقض في بعض الأحيان، إلا أنهم يجمعون على البرنامج النووي باعتباره عنوان العنفوان القومي الإيراني.
وكما أن «للكلام تاريخاً وجغرافيا»، على ما تفيد المقولة الإيرانية الشهيرة، كذلك فإن للسياسات سياقاتها الزمانية والمكانية وظروفها الداخلية والإقليمية والدولية. صحيح أنه لا يمكن تجاهل دور الأفراد، سوى في تعزيز الدفع باتجاه توجه ما أو كبحه، لكن أصل التوجه تقرره مصالح وأهداف استراتيجية أكبر بكثير من الأشخاص. ولعل هذا المدخل هو المفتاح الأساس، وليس الوحيد، لما يجري.
الكل يذكر في أي مناخ وصل نجاد إلى الحكم: مجنون يحكم البيت الأبيض اجتاح أفغانستان والعراق ويتهدد سوريا وإيران. «حوار حضارات» أداره محمد خاتمي، كرد على الهجمة الأميركية، وتعليق للبرنامج النووي الذي كان وقتذاك بإدارة حسن روحاني، استمر عامين لم يُكسب إيران سوى المهانة. وقد عبّر المرشد علي خامنئي قبل فترة عن ذلك بكشفه عن حادثة معروفة في كواليس طهران، لكنها لم تخرج يوماً إلى العلن، خلاصتها أن أحد أفراد طاقم خاتمي اتصل ذات يوم بوزير الخارجية البريطاني في ذلك الحين جاك سترو يبلغه عزم إيران تركيب عدد إضافي من أجهزة الطرد المركزي. فطلب الأخير وقتاً قبل أن يتصل ليبلغ السلطات الإيرانية أن الموافقة جاءت على عدد أقل ممّا طلب، مع شرط عدم تشغيلها كلها، وما إلى هذا من تعجرف نزل كالصاعقة على القيادة الإيرانية.
كان لا بد من «مجنون» في طهران يقف في وجه مجنون واشنطن. وكان لا بد من استبدال سياستي الحوار والمهادنة، بسياستي «تكسير الأصنام» و«حافة الهاوية». الأولى لنسف المسلمات الغربية مثل الهولوكوست وغيرها بهدف كيّ الوعي والإيحاء بأن في طهران من هو مستعد لقلب الطاولة رأساً على عقب. والثانية لإنجاز مراحل مطلوبة في البرنامج النووي، أو ما يسميه الغرب «نقطة اللاعودة»، مع إيحاء بأن طهران ماضية في هذا السبيل مهما كانت التكلفة. صراع أدير على جبهات عديدة، من أفغانستان إلى العراق ولبنان وسوريا والبحرين واليمن وغيرها. وليس مصادفة أو ترفاً خروج المرشد بنفسه ذات يوم ليعلن على الملأ، من على منبر صلاة الجمعة، أن «سياسات نجاد أقرب إليّ» من سياسات الآخرين، وكانوا وقتها يضمّون ثعلب السياسة الإيرانية و«صديقه» الشيخ هاشمي رفسنجاني. النتيجة أبلغ إنباءً من الكلام: جاء نجاد إلى الحكم ببضع مئات من أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول ومستوى تخصيب شبه منعدم. غادر بـ18 ألف جهاز طرد، بينها 17 ألفاً من الجيل نفسه، 10 آلاف منها في الخدمة. وألف جهاز من الجيل الثاني، مستعدة للدخول في الخدمة. وهي تمتلك اليوم مخزوناً معلناً من اليورانيوم 20 في المئة يلامس 190 كيلوغراماً بحسب السلطات الإيرانية و280 كيلوغراماً بحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، علماً بأن لديها القدرة على زيادته لكنها خفضت مستوى الانتاج وتعمل على تحويل المنتج إلى وقود نووي في سياق التهدئة التي تعتمدها مع الغرب، فضلاً عن مخزون ضخم (حوالى 9 أطنان) من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.5 و5 في المئة. وذلك كله في ستة منشآت نووية رئيسة: مفاعلا تخصيب في ناتنز وفوردو في قم، ومفاعل ماء خفيف في بوشهر، ومفاعل ماء ثقيل في أراك، ومفاعل لتنقية اليورانيوم في أصفهان، ومصنع وقود نووي في أردكان.
«المهمة أنجزت»، بحسب التعبير الأميركي الشهير، في ظرف إقليمي ودولي مختلف: أميركا منكفئة على نفسها بفعل أزمة اقتصادية تهدد كيانها، ما دفعها إلى اعتماد سياسة «الحرب الناعمة» في مرحلة أولى، ومن ثم تلزيم الأزمات إلى حلفائها في أوروبا والمنطقة. نصر إيراني في العراق، وتفوّق في اليمن يتهدد السعودية، ويد طولى في لبنان، وسيطرة في أفغانستان تحول دون أي انسحاب أميركي بلا تنازلات. كلها تجمعت احتقاناً في سوريا وعداوة سعودية تركية تغامر بحرب إقليمية. كان لا بد من ليونة ما، عبّر عنها المرشد بمفهوم «المرونة الثورية»، تنفس حال الاحتقان، ولا تمس بالثوابت، تستهدف انتزاع اعتراف دولي بالإنجازات، النووية حصراً، التي تحققت في عهد نجاد. فكان حسن روحاني: انفتاح بدلاً من حافة الهاوية، والدبلوماسية بدلاً من قرع الطبول. تفاصيل عملية الاختيار وآلياته تعتبر تفصيلاً. كذلك الأمر بالنسبة إلى شخص الرئيس. جورج بوش كان «حربجياً» يوم كانت الظروف تتطلب ذلك. وعندما تغيرت المعطيات، في العامين الأخيرين من ولايته الثانية، بات «أوبامانياً»، نسبة إلى أوباما الذي لو وضع في مكان سلفه في 2001 لكان سلك طريقاً مشابهاً. في النهاية منطق الدولة هو الذي يحكم مصالحها واستراتيجياتها. لا شك في أن طبيعة نجاد ساعدت في أدائه مهمته، وشخصية روحاني لا بد أنها محفزة لسياسة الانفتاح. إلا أن الأساس يبقى في المعطيات التي فرضت هذا التوجه، والمؤسسات التي تتحكم فيها، والمرشد الذي يقود المسيرة.
وفي مناسبة الحديث عن «قائد الثورة»، تبدو الأنظار كلها متجهة اليوم إليه لمعرفة رأيه في ما يفعله روحاني. قلة تنبهت إلى أن موقفه حدده علناً، في أكثر من مناسبة، لعل أبرزها كلمة منشورة ألقاها في مناسبة بداية العام الفارسي في 21 آذار 2013، أي في عهد نجاد وقبل أشهر من انتخابات الرئاسة. قال بوضوح: «لو كانوا (الأميركيون) راغبين في إنهاء هذه المفاوضات وحل هذه المشكلة، فإن الحل قريب وسهل جداً. لا تريد إيران في إطار ملفها النووي سوى أن يعترف العالم بحقها في التخصيب، وهذا هو حقها الطبيعي ليعترف ساسة الدولة المخاصمة بأن التخصيب النووي للأغراض السلمية من حق الشعب الايراني، ويمكنه أن يقوم به في بلاده وبنفسه»، قبل أن يضيف أنه «لأجل ألا تكون هناك أشياء تقلقهم، بمقدورهم اتباع المقررات والانظمة القانونية للوكالة النووية. ولم يكن لدينا منذ البداية أي اعتراض على ممارسة هذا الإشراف وتطبيق هذه المقررات...». جملة من بضع كلمات حدد فيها خامنئي السقف المقبول لأي مفاوضات: اعتراف بحق إيران بالتخصيب على أراضيها وبنفسها. أما الضمانات: قبول إيران بشكل الإشراف الذي تقرره الأنظمة القانونية للوكالة الدولية للطاقة الذرية. جاء ذلك في الخطاب نفسه الذي توعد فيه بأن «الجمهورية الاسلامية سوف تسوِّي تل أبيب وحيفا بالتراب» في حال ارتكبت إسرائيل أي «حماقة».
ليس هذا فحسب، بل إن خامنئي مهّد الأرضية لروحاني للقيام بمهمته تلك، عندما تحدث عمّا سمّاه «المرونة الثورية» أو «المرونة البطولية»، بحسب اختلاف الترجمة. قال إن «المرونة مفيدة وضرورية أحياناً». وساق مثالاً عن المصارعة، الرياضة المفضلة للإيرانيين، ليقول إن «المصارع المهني يتحلى بالمرونة لأسباب تقنية، لكنه لا ينسى من هو خصمه وما هو هدفه». كل ذلك في ظل حال من الاطمئنان عبّر عنها المرشد بردّه الاستشرافي، في خطاب ذكرى النوروز، على الكلمة الأخيرة لأوباما في الأمم المتحدة قبل أيام: «لسنا قلقين من أنكم تريدون أو لا تريدون تغيير النظام الاسلامي، حتى تصرّوا على أنكم لا تريدون تغيير النظام. يوم كنتم تنوون تغيير النظام الاسلامي وتعلنون هذا بصراحة لم تستطيعوا فعل أي شيء، وسوف لن تستطيعوا فعل شيء بعد الآن أيضاً».
ويبقى السؤال: هل تقدمت إيران بإنجازاتها النووية خطوات للتراجع خطوة مقابل الاعتراف؟ بمعنى وصلت إلى معدل تخصيب 20 في المئة للتراجع عنه في مقابل الاعتراف بنسبة 5 في المئة على سبيل المثال؟ أم هي تريد اعترافاً كاملاً بكل إنجازاتها في مقابل تسويات في ملفات أخرى؟ الجواب رهن الأيام والأسابيع المقبلة.