منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الرايخ الثالث في ألمانيا، تصاعدت حدة الإجراءات الرسمية وغير الرسمية إزاء محاكمة كل من يسيء إلى اليهود لفظاً أو عملاً أو كتابة وكل من يشكك بحدوث المحرقة النازية أو عدد ضحاياها، وصولاً إلى قمع حرية الرأي أحياناً كثيرة بحجة معاداة السامية.
ولم ينظر الغرب وحكوماته الواقعة تحت تأثير لوبيات صهيونية إلى المسألة الفلسطينية إلا كردة فعل على معاناة اليهود في أوروبا. نظرة متماهية مع منطق القوة، لا بعين إنسانية تحكم بمنطق الحق.
لكن منذ منتصف التسعينيات، وخلال العقد الأخير، تفاعلت «معاداة السامية» بنحو كبير رداً على التعاطف الشعبي الغربي، وخصوصاً الأوروبي مع الفلسطينيين واللبنانيين في وجه الاعتداءات الصهيونية المتكررة منذ الانتفاضة الثانية عام 2000 في الضفة الغربية، وصولاً إلى توسع عمليات الاستيطان الصهيوني وإقامة الجدار العنصري الفاصل في فلسطين المحتلة.
وفيما ظهرت بعد 11 أيلول عام 2001 في أميركا وبعض دول أوروبا موجة من العنصرية تجاه المسلمين والعرب وظهر مصطلح «إسلاموفوبيا»، عملت بعض السلطات الأمنية الغربية على تشديد قبضتها الأمنية على المهاجرين من أصول عربية وإسلامية، ضاربةً عرض الحائط بقيم اجتماعية وسياسية لطالما تحلّت بها أوروبا والغرب، مثل الحريات الشخصية والمساواة وحرية التعبير. وتداخلت قضية الإسلاموفوبيا مع قضية معاداة السامية، حين وقعت حوادث اعتداء وهجمات طاولت يهوداً في أكثر من مكان في العالم.
في الآونة الأخيرة، عادت قضية معاداة السامية لتحتل صفحات الجرائد مع تعيين وزير الخارجية الأميركي جون كيري، المدير الأسبق للمجلس الديموقراطي اليهودي القومي في الولايات المتحدة، إيرا فورمان، مبعوثاً خاصاً لمراقبة ومكافحة معاداة السامية، في وقت حذّر فيه تقرير جديد للخارجية الأميركية من تنامي كراهية الإسلام ومعاداة السامية في أوروبا وآسيا.
وفيما حلّ فورمان محل هانا روزنتال، التي استقالت العام الماضي من هذا المنصب، كانت أول مهمة يقوم بها بين 20 و22 أيار الماضي، جولة برفقة المبعوث الأميركي لدى منظمة التعاون الإسلامي رشاد حسين، ورجال دين من العالم بأسره إلى معتقل أوشفيتز النازي السابق في بولندا. زيارة من شأنها إضفاء مباركة إسلامية على حقيقة المحرقة النازية رغم مرور أكثر من 68 عاماً على حصولها.
جاءت هذه الخطوة لتؤكد وجود سياسة جديدة تستمر من خلالها الولايات المتحدة والدول المحلّقة في فلكها في تحديث قانون معاداة السامية مقابل تفعيل قضية الإسلاموفوبيا، في عملىة تنفيس للاحتقان الإسلامي أو إيحاءً إلى توازن - غير واقعي - في تعاطيها مع الأديان.
فالخارجية الأميركية أوحت أنها تقف على مسافة واحدة من الجميع في تقريرها الذي صدر في 20 أيار، مبدية قلقها إزاء الحريات الدينية وتزايد معاداة السامية، من دون أن تشير ـ ولو بالتلميح ـ إلى سياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بل ندد وزير الخارجية جون كيري، بتزايد القمع الذي تتعرض له أقليات مذهبية إسلامية في دول مسلمة وبما تتعرض له مجموعات دينية في آسيا، وخاصة في الصين، إضافة إلى انتقاده «الحكومات التي تفرض قيوداً على الملابس الدينية، وخاصة ارتداء الحجاب في المدارس وخلال الوظيفة العامة والأماكن العامة». يأتي ذلك في سياق البروباغندا القديمة المتجددة حول وضع أوروبا في دائرة الاتهام مقابل تصوير الولايات المتحدة بأنها الحاضن للحريات الدينية وتعاليمها.
بيد أن اللهجة كانت أكثر حدة في موضوع معادة السامية، إذ أعرب التقرير الأميركي عن الأسف لوجود «إنكارات أو تمجيدات للهولوكوست، ومعارضة السياسة الإسرائيلية لتبرير معاداة سامية واضحة».
وفي هذا السياق، طاول الانتقاد الأميركي مسؤولين حكوميين أو دينيين في فنزويلا ومصر وفي إيران بسبب تصريحاتهم المعادية للسامية، وخاصة الرئيس المصري محمد مرسي، والرئيس الإيراني المنتهية ولايته محمود أحمدي نجاد، مشيراً إلى «مظاهر عداء لليهود في جميع أنحاء العالم».
هذا الأمر لم يتوقف عند دول آسيوية أو أميركية لاتينية، بل طاول الحاضنة الأساسية للدولة العبرية منذ نشوئها، المملكة المتحدة التي أصبحت مكاناً «للتحريض» على السامية، حسبما ادعى وزير الاستخبارات والشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، يوفال ستاينتز، في مقابلة مع صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية في 23 أيار الماضي، مبدياً «قلقاً» على العلاقات بين إسرائيل وبريطانيا بسبب «ما نراه من العداء وبعض التحريضات في بريطانيا في وسائل الإعلام التي تقوم بها بعض المنظمات غير الحكومية ضد إسرائيل».
على نفس المنوال المعروف نسج ستاينتز اتهاماته بأن كل الدعوات لمقاطعة إسرائيل أو بضائع المستوطنات «نوع من المعاداة المتخفية للسامية»، مشيراً إلى قرار العالم البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ، بمقاطعة إسرائيل.
وفي ألمانيا التي يتزايد فيها نشاط النازيين الجدد والإسلاميين السلفيين، تنتشر أيضاً مصطلحات «الإسلاموفوبيا» و«معاداة السامية» على نحو واسع في الإعلام، فيما تأتي مظاهر معاداة السامية حسب المراقبين هناك من اليمين المتطرف وأوساط الشباب الألماني من ذوي الأصول المسلمة. رؤية تبرّر اللجوء إلى تضييق الخناق على الحريات بحجة مكافحة هذه الظاهرة.
ورغم أن النازيين الجدد هم من يتزعم الحملات «المعادية للسامية» والتخويف من الإسلام في الوقت نفسه، فقد شهدت ألمانيا مبادرات تربوية لمعالجة مشاكل معاداة السامية في أوساط المهاجرين فقط. علماً بأن هؤلاء أصبحوا ضحية انتشار مفهومي الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية معاً.