اسطنبول | «أبطى... سرسري» كلمتان تركيتان تعنيان بالعربية «أغبياء... زعران». بالطبع، هذا هو رد فعل التجار وأصحاب وكالات السياحة الذين قطعت أرزاقهم فجأة منذ الثامن والعشرين من أيار الماضي، تاريخ اندلاع الاشتباكات بين معارضي مشروع المركز التجاري في تقسيم الذي كان سيقضي على حديقة غازي التاريخية. الشرطة التركية التي تفننت في شراسة قمعها للمحتجين، دفعت نحو تطور الاحتجاج إلى مجالات أخرى ليس أقلها محاولة أسلمة المجتمع والقضاء على الحريات الفردية، وإثارة النعرات الطائفية، وإيقاظ أحقاد تاريخية في المجتمع التركي. كانت الشرطة قد استفزت الناس بإلقائها القبض على إرديم غنداز، وهو كوريغراف، كان أول من أمس واقفاً يشخص نحو صورة أتاتورك العملاقة في ساحة تقسيم لأكثر من ثماني ساعات انضم إليه خلالها الكثيرون، فما كان من الشرطة إلا أن قبضت على هؤلاء.
بأي تهمة؟ الله العليم. لِمَ استفزّ تحديق شخص بصورة أتاتورك شرطة أردوغان؟ لا أحد يعرف. هكذا، ما كان من المحتجين على هذا القمع المجاني الإضافي إلا أن تنادوا للاجتماع أول من أمس أمام المركز الثقافي نفسه، شاخصين إلى الصورة نفسها بين الثامنة والعاشرة مساءً.
ويبدو أن الحكومة فطنت إلى «الفخ» الذي أوقعها فيه أذكياء التحرك المبدعين، لذا لم تقطع المواصلات عن الساحة السياحية والمركزية في إسطنبول، فكانت تشاهد السياح خارجين بنحو عادي من فتحة المترو الأرضي، ليفاجأوا بوجودهم بين آلاف الأشخاص الصامتين الجامدين كتماثيل ملح أمام عدسات كاميرات العالم كله ربما.
لكن هذا لا يعني أن قوات الشرطة لم تكن موجودة. فهؤلاء، إضافة إلى قوات مكافحة الشغب، كانوا يقفون مشرفين على الساحة في حديقة غازي نفسها التي أخرجوا المحتجين منها بأسلوب من أعنف الأساليب التي شاهدتها على الإطلاق.
بدا الأمر كأنه «مباراة» بالاستفزاز بين المحتجين وأغلبهم من العلمانيين والقوى الشبابية المعارضة لسياسات حزب العدالة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وبين حزب أردوغان الذي استخدم كل وسائل السلطة التي بيده لقمع الاحتجاج.
كنت قد يئست من الترجمة ومن إيجاد شخص يتكلم لغة أعرفها بطلاقة لفهم التفاصيل، حتى إني عزمت على كتابة مقالة بعنوان «من يدبلج لنا هذه الثورة؟». فجهل الأتراك باللغات الأجنبية لا يعادله إلا «هرقة» اللبنانيين باللغات نفسها لدرجة محو الشخصية الوطنية اللغوية.
أحد المتظاهرين سألني: هل تتكلمين الفرنسية؟ قلت: «بينغو»! أهلاً بزملائي في الاستعمار اللغوي. تبين أن الشباب هنا من جامعة «غالاتا ساراي» إحدى أهم وأجمل (وأغلى؟) الجامعات التركية التي تدرّس بالفرنسية أيضاً.
يقول بيرك (21عاماً)، وهو طالب اقتصاد: «نحن ضد سياسات أردوغان الاقتصادية. ما هذه العقلية؟ ما هذه الثقافة التي تريد استبدال حديقة عامة بمول (هل يعرفون الحريري؟)! هل تعلمين؟ لدينا جسران بين أوروبا وآسيا. يريد أن يبني جسراً ثالثاً، فليكن. لكن لدي مشكلتان مع هذا الجسر: أولاً سيقطعون شجراً كثيراً لبنائه، وثانياً يريد رئيس الحكومة أن يسميه جسر السلطان سليم. لدينا ملايين من العلويين الأتراك، وهؤلاء لديهم حساسية تاريخية عالية ضد هذا السلطان بالذات، الذي قتل واضطهد وأباد الكثير منهم ومن الأقليات الأخرى».
أسأله: «أنت ضد هذا الأمر من منطلق شخصي أم اجتماعي؟ (أي باللبناني: هل أنت علوي؟) فيقول: «أنا ضده من وجهة نظر اجتماعية. العلويون يعدون بالملايين. وحتى لو كانوا أقلية، أردوغان يستورد الحساسيات الطائفية بفعلته هذه ويوقظ أحقاداً تاريخية وحساسيات. ماذا يريد؟ أن نصبح مثل سوريا؟ إنه يتحدى العلويين الأتراك».
في حديقة غازي قبل إخلائها، كانت هناك زاوية رفعت لافتة كبيرة ربطتها بين شجرتين ضخمتين، طبعت عليها صورة الإمام الحسين كما يرسمه الإيرانيون والعراقيون، وإلى جانبها عبارة بالتركية. ما كُتب تحت الصورة الشهيرة للحسين بالعمامة والكوفية الخضراء، أوضحته فيليس إيروغلو الجالسة مع جمع من الصبايا والشباب، قائلة: «أردوغان يقمعنا ويريد الحط من قدر حضرة علي (تظن أن الصورة صورة الإمام علي) ومن القيم الإنسانية التي يمثلها». تضيف الفتاة: «هل أنا علوية تسألين؟ أنا كردية من إيران وعلوية تركية وأرمنية وفلسطينية ومن كل مكان فيه ظلم، أنا الناس المضطهدون»، ثم وضعت قناع الغاز ومضت صوب الشرطة وهي تصيح «قاتل... بوليس».
تمر الدقائق بطيئة في التظاهرة الجامدة والصامتة. البعض خلع من قدميه ليقف براحة أكبر لمدة طويلة. آخرون فتحوا كتاباً أو جريدة وبدأوا بالقراءة.
الناس يخرجون من المترو. يخرج رجل يجر حقيبة. لم يتنبه فوراً إلى ما يحصل، لكنه ما إن أدرك أن هناك شيئاً غير طبيعياً حوله، حتى بدا محرجاً وحقيبته ذات الدواليب تقرقع بصوت عال فوق أحجار الساحة المرصوفة على الطريقة الفرنسية، في حين أن كل شيء صامت حوله. ثم ما لبث أن بدا شديد الخجل، فما كان منه إلا أن رفعها وحملها بيده.
غونيش أيضاً كانت مع أصدقائها واقفة بصمت (يبدو أن الجامعة كلها هنا!) تقول رداً على سؤالي: «نعم، نحن أيضاً ضد سياسات الحكومة الاجتماعية الرجعية. هل سمعت بقانون منع الإجهاض؟ يريدون لنا أن ننجب ثلاثة أطفال على الأقل، وليس لديهم أي خطة اجتماعية. ما هذا؟ يقولون إن التظاهر غير مشروع وغير مرخص والفقرة 26 بالدستور تكفل لنا حق التظاهر. لن نسكت بعد اليوم، وحتى بالصمت سنحتج كما الآن».
غير بعيد عنها أتقدم صوب مقدمة الحشد المواجه للمركز لأرى وسط جمع من المصورين والكاميرات التلفزيونية مانيكان لرجل من النوع الذي في واجهات المحال لعرض الألبسة، «يرتدي» بنطلون جينز وقميصاً أبيض، وبجانب قدميه البلاستيكيتين حقيبة ظهر سوداء وعبوة مياه معدنية. بدا واضحاً أنه تقليد لحركة الفنان الذي بدأ التحرك أول من أمس واعتقلته الشرطة بتهمة غير مفهومة. كل ذنبه الوقوف هناك والتحديق لساعات بصورة أتاتورك.
فجأة يدوّي صراخ رجل. تتراكض كل الكاميرات لتلاحقه، فقد وجدت شيئاً يتحرك لتصوره. سريعاً بدا أن الرجل يستفز الناس. يترجم لي شاب ما كان يصيح به الرجل: «أنتم تستفزوننا. أنتم خونة. لديكم أجندة خارجية. لقد شوهتم صورة تركيا». يا إلهي! هل هذا تلفزيون الدنيا أم الفلول؟
يهمّ أحد المتظاهرين بالرد عليه، لكنّ متظاهراً آخر يركض نحوه ويمسك بساعده ليمنعه وهو يقول: «آبيه، ساكينو (أخي الكبير، اهدأ) إنه يستفزنا حافظ على الصمت والهدوء... يريد إعطاء حجة للشرطة للتدخل». أنظر إلى حشود الشرطة إلى يسار المتظاهرين، فأراهم يتململون. يرتفع من مئات الأفواه فوراً صوت واحد «شششش... ششششش»، طالباً الصمت، مع رفع الأذرع إلى الأعلى علامة الهدوء. بسرعة يعود المتظاهر الغاضب إلى مكانه.
يبدو أني محظوظة اليوم؛ فقد عثرت على شخصين آخرين يتكلمان الفرنسية بطلاقة باريسية! أستاذان من ليسيه «بيير لوتي». ما هذا الوجود الفرنكوفوني اليوم؟ بدأت أشعر بأن أردوغان على حق: هناك مؤامرة ضده، وهي لا شك فرنكوفونية.
يقول جان: «أنا هنا لأني ضد الممارسات غير الديموقراطية. البلدان حولنا تحاول الوصول إلى العلمانية، ونحن نريد العودة إلى الوراء. ما هذا الغباء؟ كيف ينتقد أسد (الرئيس السوري بشار الأسد) ويفعل مثله بالمتظاهرين؟ انظري ما فعل بالمتظاهرين السلميين، وبكل وقاحة ينتقد الرئيس السوري ويقول عنه ديكتاتور؟ ألا يخجل؟ كيف يقول ويفعل أشياء متناقضة؟».
أسأله: لكن هناك الكثير من الناس معه، وأنت لا تنكر أنه انتخب ديموقراطياً؟ يجيب: «إيفيت (صحيح) نحن انتخبناه لأنه كانت لديه إصلاحات تركيا بحاجة إليها. لكن بعد عشر سنوات من حكمه، انظري ماذا يفعل.
حتى من انتخبوه بسبب اتجاهه الإسلامي. لا أظن أنهم اليوم يفكّرون بالطريقة ذاتها. إنه يستتبعهم بإعطائهم مساعدات من الفحم (التدفئة في جرود تركيا الشديدة البرودة والفقر) أو بعض النقود. هو الآن يستخدم كل أدوات السلطة للبقاء في الحكم وليس من أجل صالح الوطن. لقد أُصيب الرجل بجنون العظمة».
الساعة تشارف على التاسعة مساءً، والأعداد لا تزال تتزايد، والرطوبة في هذه المدينة قاتلة. لكن هواء المساء يخفف قليلاً ببرودته من وطأة الوقفة هنا.
باعة متجولون يشمون دائماً رائحة الجهة التي سيأتي منها الرزق، باعة كستناء مشوية أو ذرة أو حتى صدف بحري رائج بيعه هنا في المدينة البحرية. منهم من وقف على أطراف الجمع، ومنهم من تجرأ على الدخول بين الصامتين والمناداة على بضاعته بأعلى صوته من دون أن يرف له أو لهم أي جفن.
بين الواقفين أعثر على صحافي صديق. يخبرني مسعود أن هناك اعتقالات بصفوف الصحافيين وبعض الناشطين من بيوتهم، وأن الحكومة أغلقت قناة وصحيفة أمس. وأخبرني أن قناة «بي بي سي» البريطانية أوقفت تعاملها مع قناة «أن تي في» التركية.
أتذكر أنني فتحت التلفزيون أول وصولي على قناة «تي آر تي العربية» الحكومية، ففوجئت بأنها كانت تبث برنامجاً عن الطبخ، فيما كانت قناة «أونصال» المعارضة تبث مباشرة، صور القمع الوحشي من حديقة غازي وشارع الحربية. ويخبرني أيضاً أن تهديد وزير الداخلية بإنزال الجيش إلى التظاهرات أصاب بالذهول الكثير من المعارضين.
فالجيش الشهير بأنه حامي العلمانية، والذي نجح أردوغان أخيراً (وبإذن أميركي يقول البعض) بقصقصة أجنحته، لن يكون ممتناً من مواجهة محتملة مع الشارع المنتفض لحماية منجزات أتاتورك أبو الجمهورية، الذي يبدو أردوغان هذه الأيام في معركة معه شخصياً وليس مع الشارع التركي.
تقف فتاة عكس الواقفين، أي إنها تولي ظهرها لصورة اتاتورك الضخمة، لأسباب تقنية طبعاً، لكونها كانت امام كاميرا تلفزيونية تصورها واقفة بدورها كالصنم وقد حملت بيدها لافتة كتبت عليها كلمتان فقط بالتركية تقول: «Boyun Egme» أي «لا تحنِ رأسك». من الواضح ان الصيف في تركيا سيكون طويلاً، ولن يكون «ساكينو» أبداً.



اجتهاد أردوغاني

دعا وزير الداخلية التركي معمر غولر، إلى عدم المشاركة في التظاهرات «غير المشروعة»، رغم أن الفقرة 26 من الدستور التركي تكفل حرية التظاهر. المشكلة تبدو في اجتهاد حكومة أردوغان لتفسير الديموقراطية كما يبدو.
فالرجل من دون شك منتخب ديموقراطياً، ومهما كانت أسباب التجمعين الكبيرين نسبياً بين أنقرة وإسطنبول لإثبات قوته الشعبية، إلا أن الأمر يتعلق أيضاً بمفهوم الحكم الديموقراطي. فإن كانت النسبة العددية التي انتخبته، فهل يصح أن يقهر «الأقلية» الضخمة التي لم تنتخبه؟ هل يستطيع بولاية محدودة أن يتخذ قرارات تغير أسلوب حياة الناس؟
يبقى سؤال مهم: هل الديموقراطية هي مسألة تتعلق فقط بالعدد؟ كيف تكفل حقوق الأقليات إذاً؟ اليسوا مواطنين؟ أم يريدهم أردوغان أهل ذمة عصريين؟
يبقى القول إنه بعد عشر سنوات من حكم أردوغان، يبدو أن المعارضة لحزب العدالة والتنمية وجدت ما يجمعها كقضية أبعد من تحويل حديقة إلى مركز تجاري.