تركيا مختلفة كان الهدف منها الفصل بين ما يجري في تركيا من احتجاجات قد تكون عارضة ومحدودة، وما يجري من انتفاضات أكثر جماهيرية وجذرية في الجوار العربي.
وإذا تركنا جانباً شهوة التنبؤ التي تجتاح الكثير من المحللين من مختلف الاتجاهات، والتي تحاول استشراف ما يجري في تركيا كبداية لانتفاضة واسعة النطاق على غرار انتفاضات الربيع العربي أو كاحتجاجات محدودة ستنتهي سريعاً بالقمع أو الحوار، وحاولنا النظر بموضوعية، فسنجد بالفعل أن تركيا مختلفة.
تركيا لا تشبه أياً من الدول التي انفجرت فيها الانتفاضات الثورية طوال السنوات الثلاث الماضية، لكن المفاجأة أن تلك الدول نفسها كانت مختلفة ولا تشبه بعضها بعضاً. فمنها الدول التي كانت مستقرة اقتصادياً ومنها المأزومة، ومنها الأنظمة المتعاونة مع إسرائيل وأميركا ومنها الممانعة. ومنها الدول المنقسمة طائفياً أو مذهبياً أو قبلياً، ومنها ما لا تظهر فيها تلك الانقسامات.
لم تكن انتفاضات الربيع نسخاً مكررة في مجتمعات متشابهة، بل كانت لكل منها طابعها الخاص.
إن أكثر ما يحتج به القائلون بأن تركيا مختلفة، وما يجري فيها لا يشبه الثورات العربية، هو الوضع الاقتصادي المتقدم الذي تحقق في السنوات الماضية.
لقد حققت تركيا، وفقاً لبيانات البنك الدولي في 2012، معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي بلغ 2.9 في المئة، ويتوقع أن يصل إلى 4 في المئة عام 2013. وهو ما يمثل تراجعاً حاداً عن النسبة التي حققها الاقتصاد التركي في 2011 وكانت 8.5 في المئة.
وإذا كان أداء الاقتصاد التركي هو ما يفتخر به النظام، ويُعدّ طوق نجاة له من ظاهرة الربيع، فإن المفاجأة أن الثورات العربية انطلقت من بلد كان أداء اقتصاده أفضل. فتونس التي أطلقت الربيع كان معدل النمو فيها عام 2010، أي العام الذي انطلقت فيه الثورة، 4 في المئة، وكانت التقديرات تشير إلى وصوله إلى 5 في المئة في 2011. وكان الاقتصاد التركي وقتها مُصنّفاً في المرتبة الأولى أفريقياً والرابعة عربياً.
لم تكن تونس تترنح تحت وطأة أزمة اقتصادية، أو تعاني إدارة اقتصادية فاشلة، بل كانت مصنفة في المرتبة الخامسة والثلاثين على المستوى الدولي في تقرير التنافسية الاقتصادية العالمية.
كانت نسبة التضخم في تونس في العام الذي اندلعت فيه الثورة قد وصل إلى 4.2 في المئة، وهي نسبة معقولة للغاية. وكانت في نفس الوقت في تركيا 6.4 في المئة.
كانت رسالة الثورة التونسية في هذا الصدد واضحة، وهي أن مؤشرات الاقتصاد والرسوم البيانية التي تعرضها كبرى المؤسسات الدولية لا تعني الكثير بالنسبة إلى الشعوب.
لم تنطلق احتجاجات تركيا على خلفية اجتماعية كما جرى في تونس. وهي في ذلك مختلفة بالفعل، فقد انطلقت على ما يمكن تسميته خلفية ثقافية.
لكن السؤال الذي يتفادى البعض طرحه هو: أين كانت تلك الخلفية الثقافية منذ تسلم حزب العدالة والتنمية ذو الطابع الإسلامي، المعتدل طبعاً، السلطة عام 2002 أي منذ أكثر من عشر سنوات؟
فما يُعدّ تهديداً للعلمانية لم يحدث فجأة في ميدان تقسيم، حيث دأب «العدالة والتنمية» على مدار حكمه على تدعيم الثقافة والعادات الإسلامية ومقاومة الثقافة العلمانية. ولم تكن استعادة التاريخ العثماني بعيدة عن خطاب أردوغان وسياساته طوال سنوات حكمه، حتى إنه أعاد ترتيب الأولويات الخارجية، التي كان يتصدرها انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، ليعطي الأولوية لتدعيم العلاقات مع المحيط العربي والإسلامي.
لكن ما الذي استدعى رد الفعل المحتج في ميدان تقسيم ضد ما عُدّ إحلال الثقافة العثمانية محل الثقافة الأتاتوركية؟
إجابة هذا السؤال يمكن أن نعرفها من هؤلاء الذين يجتهدون في نفي أي علاقة بين ما يجري في تركيا وما جرى ويجري حولها في عدد من الدول العربية من انتفاضات وثورات. فهذا الاجتهاد في نفي العلاقة هو في حد ذاته تأثر لا محدود بالانتفاضات العربية.
إن اعتبار الشعب التركي في عزلة تامة عما يجري حوله، فكرة من السذاجة بحيث لا يجوز أصلاً مناقشتها، ولكن أيضاً اعتبار أن احتجاجات تركيا هي بداية لحلقة جديدة من ثورات المنطقة، هو أيضاً تسرع في الحكم.
لكن يمكن فهم الأمر على نحو أكثر بساطة. فثورات الربيع العربي قد سبقها تفجر انتفاضة عارمة في اليونان عام 2010، أي قبل الثورة التونسية بشهور، وكانت في مواجهة خطط التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الحكومة اليونانية، وكانت لها عواقب وخيمة على الفقراء والطبقة الوسطى في اليونان.
لم تكن تلك خطة التقشف الأولى التي تفرضها مؤسسات تمويل دولية، فصندوق النقد والبنك الدوليان عمّما التقشف على شعوب العالم طوال العقود الماضية.
لكن ما يحدث في السنوات الماضية هو تغير واضح في ردود الأفعال الجماهيرية، إذ إن مقاومة الشعوب للسياسات التي لا ترضيها أصبحت أكثر سرعة وأكثر وضوحاً وأكثر قوة.
الجماهير تتحرك. هذا ما يحدث في أماكن مختلفة ولأسباب مختلفة وأيضاً بدرجات مختلفة؛ ثورة أو انتفاضة أو احتجاج ضخم. إنها سمة للمرحلة أن تصبح الشعوب طرفاً في المعادلة، وألا تكون الأنظمة مفوضة في القيام بما تراه.
هكذا يمكن النظر إلى الاحتجاجات الجارية في تركيا من دون الكثير من الاجتهاد في تمييزها عن الثورات العربية، وأيضاً من دون اعتبارها حلقة جديدة في تلك الثورات.
قد تمتد الاحتجاجات في تركيا لتشمل مدناً ومناطق جديدة، وقد تُضاف أبعاد اجتماعية واقتصادية الى الاحتجاجات، وقد يتزايد الصدام بين المحتجين والدولة ومؤيديها، وقد تتحول الى انتفاضة جديدة تُضاف الى الانتفاضات الجارية في المنطقة، لكن أيضاً يمكن أن تكون موجة عابرة ومحدودة تنتهي بعد أيام.
كلا الاحتمالين وارد، لكن تبقى احتجاجات تركيا جزءاً من ظاهرة عصر الاحتجاج الجماهيري بكل ما تحمله من اختلافات، كما حملت سابقاتها من اختلافات.
وحتى انتهاء الاحتجاج سيعني أن موجة أخرى من الاحتجاجات قد تظهر في تركيا لاحقاً على خلفيات أخرى. فالجماهير عندما تتحرك لا تعود أدراجها سريعاً.
في بنيتها العرقية والمذهبية والطائفية تختلف تركيا عن محيطها، تختلف أيضاً في أوضاعها الداخلية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً عن تلك الدول التي انفجرت فيها الثورات.
تركيا لا تشبه في وضعها الدولي وعلاقاتها الخارجية البلدان التي اجتاحتها عواصف الغضب الجماهيري، بل تختلف عن محيطها في كل شيء.
ثمة شيء واحد تتشابه فيه كل تلك الدول، بل وكل دول العالم، هو الشعوب. وطالما أن دولة فيها شعب في عصر تصبغه حركات الشعوب، فما من نظام آمن من غضب الجماهير.