إسطنبول | لم يكن وضع السائح في إسطنبول أمس مريحاً، حيث تحوّل ميدان تقسيم إلى ساحة مواجهة حقيقية بين قوى الأمن والمحتجين على سياسات الحكومة، بينما كان شارع الاستقلال ممراً لمجموعات الشباب الأتراك، الذين يصرخون ويقرعون طناجرهم من أجل الديموقراطية. المواجهة استعرت أمس في تقسيم، حين أطلقت قوات الأمن مدافع المياه وقنابل الغاز المسيل والرصاص المطاطي للدموع لتفريق مئات المحتجين المسلحين بالحجارة والألعاب النارية، والذين حاولوا استعادة السيطرة على الميدان.
وفيما دخلت قوات الأمن بمركباتها المدرعة الميدان وبدأت الجرافات تزيل الحواجز المُقامة، اعتقلت الشرطة 73 محامياً كانوا يحتجون على تدخل قوات الأمن، حسبما أعلنت جمعيتهم على موقع «تويتر».
إلا أن آلاف المتظاهرين عادوا إلى تقسيم مساءً، فيما انسحبت الشرطة إلى محاذاة المكان الذي انطلقت منه المواجهات منذ 31 أيار الماضي.
اللافت في المشهد كان مناشدة الشرطة للمتظاهرين التحلي بالهدوء، قائلة عبر مكبرات للصوت: «أصدقاء غازي الأعزاء، لسنا سعداء بهذا الموقف. لا نريد التدخل. لا نريد إيذاءكم. من فضلكم انسحبوا».
وفي المقابل، قامت مجموعات من المتظاهرين المجهزين بأقنعة الغاز بالرد بالحجارة أو بقنابل مولوتوف. وبدا واضحاً أن إصرار الشرطة على قمع المتظاهرين لم يزد هؤلاء إلا حماسة بالتوجه إلى تقسيم.
منذ الأسبوع الماضي، بدأ التغيير يظهر على شارع الاستقلال المؤدي إلى تقسيم، حيث رشّ الطلاب بالأحمر أرض الشارع، المعدّ بكل ما فيه لإرضاء السيّاح، بعبارات معارضة لرئيس وزرائهم رجب طيب أردوغان. كتبوا: «رجب طيب، ارحل»، فردّ مناصرو أردوغان في الشارع الموازي برشّهم الأرض أيضاً بعبارات مضادة، منها: «حزب الشعب الجمهوري، قاتل».
الحكومة أيضاً أدخلت تعديلات سريعة على شارع الاستقلال، فأضافت في وضح النهار بسرعة أعمدة، مانعة بذلك مرور السيارات فيه. هذه الطريقة، كما أخرى، استعملتها الحكومة التركية لإقفال الطرقات المؤديّة إلى ساحة تقسيم، اعتقاداً منها أنّها ستقلّص عدد المتظاهرين. لكنهم ظلوا يتوافدون كل مساء على الساحة، سائرين مسافات طويلة على الأقدام، كي يكملوا احتجاجهم.
من هؤلاء الشابة أوزلم (اسم مستعار)، التي كانت تنظر إلى صورة كبيرة لأردوغان تغطي أحد مكاتب حزب العدالة والتنمية، تقرأ إلى جانبها: «القوة العظمى ــ الهدف 2023». تغتاظ وتبدأ بالشتم: «الديكتاتور، يظنّ أنه باقٍ في الحكم حتى عام 2023»، بينما يقول بعض المحتجين إن «غرور أردوغان وحبّه للعظمة سيقتلنا».
حقد أوزلم، كما غيرها على أردوغان، أصبح كبيراً. تقول: «لن ننسى أبداً ما يفعله بنا اليوم. وأنا لا أقول أننا «لن ننسى» كما يقولها أي شخص، أقولها كما يعنيها تركي لن يسامح».
أوزلم نزلت إلى «تقسيم» منذ اللحظات الأولى التي لم تعد فيها قضيّة «غازي بارك» قضية بيئيّة، وتحوّلت إلى معركة من أجل الحفاظ على الديموقراطية والدولة العلمانيّة. تقول: «نزلنا إلى ساحة تقسيم في اللحظة التي ضرب فيها أردوغان عرض الحائط بقرار المحكمة التي أمرت بوقف أيّ عمل في «غازي بارك»، نزع الأشجار أو بناء المركز التجاري، حتى تتخذ قرارها النهائي في موضوع البناء. نزلت أوزلم وزوجها وأصدقاؤها إلى «تقسيم» ليتظاهروا، وهي في سن الثلاثين، لم ترَ تظاهرة يوماً إلا على شاشات التلفزة. لكن أردوغان الذي يسحب من تحت أقدامهم رويداً رويداً بساط الحريّة والعلمانية، كان بحاجة إلى أن يذكّروه بأنّه موجود في منصبه لأجلهم وبسببهم.
في اليوم الثالث للتظاهرات اعتقلت أوزلم في ساحة تقسيم. قالت لعناصر الشرطة الذين أخذوها إنّها تعاني مرض التصلّب العصبي التعددي (MS)، مع ذلك عندما وصلوا إلى مركز الشرطة، قام أحدهم بتثبيت جسدها بينما انهال عليها الآخر بالضرب.
في الجولة الأولى، قام الشرطي بضربها بيديه، ثم أحضر عصاه لتبدأ الجولة الثانية من العنف. تقول أوزلم: «لم أفهم لمَ ثبّتاني وهما يضربانني، فبنيتي النحيلة لا تجعلني أشكّل خطراً عليهما، كنت أريد فقط أن أحمي رأسي من الضربات الموجّهة إلي». لكنْ هناك شيء أثار ريبة أوزلم والمتظاهرين، إن كان في ساحة تقسيم أو الشرطيين اللذين اعتقلاها.
هؤلاء لديهم لحى. تقول أوزلم: «لم نرَ يوماً في تركيا شرطياً بالبزة الرسميّة لديه لحية. لكن هذا الأمر لافت فعلاً وأثار ريبتنا»، في إشارة إلى أنّ حزب العدالة والتنمية نشر «قوّاته الخاصة العنيفة» للتعامل مع المتظاهرين.
تقرّ أوزلم بأنهم في مركز الشرطة لم يتّخذوا قرار ضربها حتى الموت. لكنها تقول إنهم أرادوا إرهابها حتى لا تجرؤ على التظاهر مجدداً. وتضيف: «رغم الضرب، إلا أنهم لم ينجحوا في إرهابي. بل سأكون دوماً أولى الحاضرات في ساحة تقسيم للتظاهر، وبعد اعتقالي أنا مصرّة على ذلك أكثر من ذي قبل، حتى إنني مستعدة لأن أكون أول من يموت في الساحة. كلّ ما في الامر أنني شعرت بذلّ كبير، حتى إنني لم أجرؤ على إخبار زوجي».
والسبب أنها تخاف من أن يتحوّل ردّ فعل زوجها إلى العنف، تجاه موالي أردوغان، إذا ما علم بما حصل معها في مركز الاعتقال. فهو يتعرّض يومياً لاستفزازات كثيرة من مناصري أردوغان، لكنه حتى الآن يرفض الدخول في عراك جسدي معهم. لقد اتفق المتظاهرون أنّه مهما بلغت حدّة الاستفزازات من قبل مناصري أردوغان فإنهم لن يجيبوا بالعنف، لا لشيء سوى أنّهم يفهمون خطورة الوضع ولأنهم بداية يريدون الحفاظ على بلدهم.
تقرير المستشفى الأول بعد اعتقال أوزلم يقول إنه ما عاد باستطاعتها العودة إلى عملها بنحو طبيعي. تحكي عن ذلك بحزن كبير. إلا أنّ الشركة التي تعمل فيها كانت «لطيفة كفاية» لتتفهم وضعها الصحي وتنقلها إلى منصب أقلّ إرهاقاً، بشرط أن لا تتجه إلى تقسيم مجدداً! لكن ذلك أيضاً لم يمنعها من التوجّه إلى «تقسيم» مجدداً.
عدد من المحتجين يعبّر عن عدم اكتراثه بتحوّل تركيا إلى دولة ذات نفوذ في الشرق الأوسط، فكلّ ما يهمّهم هو أن يعيشوا بسلام وحريّة داخل حدود دولتهم.
بالنسبة إليهم هذا حلم أردوغان وحده «ذاك المهووس بالسلطة» كما يقولون عنه اليوم، وليس حلمهم. حتى إنّهم في الموضوع السوري يقولون إنّ جلّ ما أرادوا لدولتهم أن تفعله هو أن تفتح أبوابها للاّجئين المدنيين فقط وتقديم المساعدات الإنسانية، لا أن تدعم بأي شكل من الأشكال أيّاً من الطرفين المتنازعين.
يبدو أن الأتراك يراقبون ما يحدث في الدول العربية بخوف. منذ بدء التظاهرات وكثير منهم يعيش قلقاً فعلياً من حرب أهليّة محتملة يمكن أن يسببها عناد أردوغان وتمسّكه بقراراته التي تقود رويداً رويداً إلى أسلمة الدولة.
بالنسبة إلى بعض المتظاهرين، فإنّ رئيس حكومتهم خلف بوعده لهم بالمحافظة على علمانيّة الدولة عندما وصل حزبه إلى الحكم.
فها هو اليوم يهين «رمز الدولة، والبطل القومي» مصطفى كمال أتاتورك، بتبريره منع بيع الكحول بعد العاشرة ليلاً، قائلاً: «أتقبلون بقوانين خطّها سكّيرون ولا تقبلون بقراراتي؟»؛ إذ إنّ إهانة أتاتورك لا تمرّ بهذه السهولة بالنسبة إلى الأتراك. تستهدف الشرطة في تقسيم «غير المحتشمات»، بينما أصبحت إحدى الفتيات حين تعرّضت للرش بالمياه، بسبب فستانها الأحمر، رمزاً للتحركات.
وإن كانت الشرطة لا تستهدف المتظاهرين بالرصاص الحيّ، إلا أنّها تتعمّد الأذيّة بما لديها. فالمياه لا تُرشّ على المتظاهرين إلا من مسافات قريبة، لتتطاير أجسادهم في الهواء، حتى إنّها تعمّدت رشّ البعض على الكورنيش ليقع المتظاهرون مباشرة في البحر.
المتظاهرون الحرصاء على الابتعاد عن العنف مهما بلغت تجاوزات الحكومة بدأوا منذ منتصف الأسبوع الماضي اجتماعات بعيدة عن أنظار الحكومة، مع الأطراف التي لها تأثير في حملة أردوغان الانتخابية، علّهم يحلّون الأمور بالحسنى، قبل أن تتعقّد الأمور أكثر.
خلال الاجتماعات التي يخاف المتظاهرون إعلانها، حتى لا تنفّذ الحكومة حملات اعتقالات واسعة بحقّهم، «تفهّم الطرفان مخاوف بعضهما»، لكنهما فوجئوا أيضاً بأنّ كل طرف منهما يتّهم الآخر بتنفيذ جدول عمل أميركي يهدف إلى تخريب تركيا، فشبح «الربيع العربي» يخيف المتظاهرين على الأقلّ.
من أسباب بيئيّة، تحوّلت التظاهرات إلى محاولة لكبح طموح أردوغان وإعادته إلى أرض الواقع والدفاع عن الديموقراطية، لكن من دون إقصائه عن الحكم، فلا أحد ينكر أفضال سياسات الرجل على الاقتصاد التركي، مع أنّ المتظاهرين يقولون إنّ رئيس الحكومة لن يلوي إرادتهم أو حقوقهم بإنجازاته الاقتصادية، فإن لم يكن هو لكان غيره قد أسهم في دفع اقتصاد تركيا خطوات إلى الأمام.
كذلك، الأكثرية التي يملكها ويحاججهم بها دوماً، يقولون إنّها هنا بسبب اتّباعه سياسة الإسلاميين عامة في كسب الأصوات: «إن لم تنتخبوني، ضاع الإسلام».
ثم أيضاً بسبب غياب البديل الجدّي عن الساحة. لكن المتظاهرين الرافضين لخطط أسلمة الدولة الأتاتوركية أصبحوا يطالبون أخيراً بانتخابات مبكّرة التي رفضها أردوغان، بينما تتمسك النساء بالحفاظ على حقّهنّ في ارتداء ما يردن في ظلّ الدولة العلمانيّة. واقع يؤكد أن شراء حزب العدالة والتنمية لمعظم وسائل الإعلام لم يؤثر في غسل أدمغة كافة الشعب التركي. وهنا يبدو أردوغان بطريقة تعاطيه مع المشكلة، وكأنه يحرق جسور الحلّ بينهما بسرعة خيالية.






https://www.facebook.com/photo.php?v=182857505211043&set=vb.245848732200771&type=2&theater




شارعان في تركيا؟

التوتّر بين مناصري رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان ومعارضيه بدأ يظهر جلياً بين الناس. فبينما كانت أوزلم تحكي على طاولة العشاء في المطعم، بتأثر كبير ما يحدث في تقسيم، امتعض الرجل وعائلته على الطاولة المحاذية من حديثها. فحمل هاتفه فجأة وادّعى أنّه ورده اتصال، محاولاً التكلّم بإنكليزيّة ركيكة، شارحاً لمن يسمعه، مبدئياً، على الطرف الآخر من الخط أنّه في تركيا «no problem»، وكل شيء يسير على أحسن ما يرام، وأنّ معظم الشعب يؤيّد أردوغان، وكرّر كلمات الأخير لوصف المتظاهرين بأنهم مجموعة من «السكّيرين».
بعد أن وصلت الرسالة إلى الأجانب، أبعد الهاتف عن أذنه وانتقل إلى شتم المتظاهرين باللغة التركية، بأبشع الألفاظ، كي تصل الرسالة الأخرى إلى مواطنته. هذه الاستفزازات تحوّلت إلى عادة يوميّة، يخشى معظم الأتراك أن تخلق في تركيا شارعاً مقابل آخر.