كان الشاب إدوارد سنودن يعيش على أحد شواطئ جزيرة هاواي الجميلة، يعمل في إحدى أهمّ الشركات الأمنية العالمية، يتقاضى مرتّباً جيداً، يتواصل باستمرار مع عائلته التي يحبّ، ولديه صديقة حميمة تسكن معه. هي الحياة التي قد يحلم بها أي شاب في التاسعة والعشرين من عمره. لكن سنودن الذي انتقل منذ 3 أشهر للعمل في شركة «بوز ألن هاميلتون» مديرَ أنظمة الكومبيوتر فيها، قرر أن يقلب حياته تلك رأساً على عقب. استفاق ضمير الشاب موظف الـ«سي آي إي» السابق والمسؤول عن أنظمة كومبيوتر «وكالة الأمن القومي»، وقرر أن يكشف بعضاً من المستور. هو اليوم قابع في غرفة فندق في مدينة هونغ كونغ الصينية المكتظة. لا يغادرها إلا نادراً، لا يتصل بأحد، يشاهد صوره في التقارير التلفزيونية الأميركية والعالمية ويستمع إلى تصريحات الرئيس باراك أوباما ومديري الاستخبارات وجهاز الأمن القومي ومسؤوليه في «بوز»، «يستنكرون فعلته أشدّ الاستنكار». أغضب الشاب العشريني كل «الدبابير». يسدّ سنودن فتحات باب غرفته بالوسائد «خشية من التنصت عليه» ويغطي الفسحة التي تفصل رأسه عن جهاز الكومبيوتر بلوح أحمر عندما يريد أن يطبع كلمة السر على «الكيبورد». يخشى من كاميرات مزروعة حوله أينما كان، يخاف من ملاحقة عملاء الـ«سي آي إي» له، وهو الأدرى بقدراتهم وأفعالهم.
الأميركي إدوارد سنودن (29 سنة) هو مَن سرّب ملفاً سرياً من «وكالة الأمن القومي» NSA منذ أيام، كاشفاً عن برنامج تجسس واسع إلكتروني وهاتفي على المواطنين الأميركيين وغير الأميركيين (راجع «الأخبار» عدد السبت 8 حزيران 2013)، الأمر الذي وُصف بالاختراق التاريخي لحصن الاستخبارات السرية الأميركية، أي «وكالة الأمن القومي». البرنامج الذي سرّبه سنودن يدعى PRISM، وهو يفتح للاستخبارات الأميركية خوادم أكبر شركات الإنترنت والاتصالات، ويتيح لها التجسس على كل مستخدميها. لماذا فعل سنودن فعلته «الجهنّمية» تلك؟ كيف انتقل إلى هونغ كونغ، وهل هو في مأمن هناك؟ لماذا تخلّى عن كل ما يملك وعن شواطئ هاواي الخلّابة؟
الشاب الذي لا يحمل شهادة بكالوريا، والذي لم ينجح في الانخراط في الجيش الأميركي بعدما كسر رجليه خلال التدريبات، يقول في مقابلة مع صحيفة «ذي غارديان» البريطانية إنه «ليس نادماً على ما فعل». «أفهم جيداً أنني سأدفع ثمن ما قمت به، لكني سأكون راضياً عندما تُكشف أسرار القوى السرية المتحكمة بالعالم الذي أحبّ... ولو للحظة»، كتب سنودن في ملاحظة رافقت رزمة الوثائق السرية التي سرّبها للـ«غارديان». وها هو يحاور صحافيي الجريدة البريطانية من هونغ كونغ بعد نشر تلك الوثائق ويقول لهم: «لا أخشى الظهور في الإعلام، لكن لا أريد أن يسلّط الضوء عليّ، بل يجب أن يُصَبّ الاهتمام على مضمون تلك الملفات وعلى ما ترتكبه الحكومة الأميركية».
لم يكن سنودن معادياً لحكومة بلاده في السابق، بل سعى إلى خدمتها والحفاظ على أمنها منذ بداية انخراطه في الحياة المهنية. الشاب الذي عمل بداية حارساً أمنياً لإحدى وحدات «وكالة الأمن القومي» السرية في جامعة «ماريلاند»، انتقل إلى «سي آي إي» ثم إلى «الأمن القومي» بفضل «ذكائه ونشاطه في المجال الإلكتروني».
وبعد أربع سنوات «خدمة» في «الأمن القومي» تولّى سنودن إدارة أنظمة الكومبيوتر الخاصة بالـ«إن إس إي» في شركة «بوز ألن هاميلتون» المتعاقدة مع الحكومة الأميركية. «هدفي الأساسي هو إعلام الناس بالأمور التي تُرتكب باسمهم وبتلك التي تستخدم ضدهم»، يقول سنودن لصحافيي «ذي غارديان».
قرار فضح بعض ما تقوم به وكالة الاستخبارات في مجال التجسس على الحسابات الشخصية للأميركيين وللمواطنين حول العالم، ورد في ذهن الشاب الأميركي منذ عام 2007 عندما أرسلته «سي آي إي» في مهمة سرية إلى جنيف حيث اطّلع مباشرة على كيفية عمل الوكالة وضبّاطها وخفايا ملفاتها الإلكترونية. لكنه تريّث آنذاك كما يقول، «لأنه لم يرد أن يؤذي أشخاصاً، بل أن يطلع المواطنين الأميركيين على خفايا ما يرتكب بحقهم».
أمِل سنودن أن يغيّر الرئيس باراك أوباما في تلك البرامج السرية ويحدّ من صلاحياتها ويعيد الاعتبار لحرية الأميركيين الشخصية، لكن ذلك لم يحدث. وها هو، يقول لمديريه في مكتب هاواي قبل 3 أسابيع إنه «سيتغيب لبضعة أسابيع بحجة خضوعه لعلاج من الصرع». وفي 20 أيار الماضي، طار سنودن إلى هونغ كونغ حيث يقيم لغاية اليوم. لماذا هونغ كونغ الصينية؟ «لأنهم ملتزمون ـ بشجاعة ـ حريةَ التعبير وحق المعارضة السياسية»، يجيب سنودن ويضيف: «هونغ كونغ هي من الأماكن القليلة في العالم التي لا تخضع للإملاءات الأميركية». ما الذي سيحلّ به الآن؟ «كل الاحتمالات سيئة. قد يلاحقني عناصر «سي آي إي» مدى الحياة، وقد تباشر الحكومة الأميركية إجراءات تسليم المجرمين بحقّي حسب الاتفاقات الدولية، أو قد تستدعيني السلطات الصينية للتحقيق، أو حتى قد أجد نفسي على طائرة مرحّلاً إلى الولايات المتحدة». سنودن لم يضطرب إلا عندما تحدّث عن قلقه على عائلته، كما نقل عنه صحافيو «ذي غارديان». «لا أخاف من شيء؛ لأنني مقتنع بالخيار الذي اتخذته»، ردد الشاب خلال المقابلة. «ما تقوم به وكالة الأمن القومي هو تهديد وجودي للديموقراطية. لستُ بطلاً. كان من واجبي أن أتصرف على ذلك النحو»، علّق الشاب المعجب بدانيال إلسبرغ وببرادلي مانينغ.