يبدو أن سياسة هز العصا الكورية الشمالية في وجه الخصوم قد أتت أكلها ولو بعد حين، من تهديدات بحرب نووية والقيام بتجارب إطلاق صواريخ أكدت جدية النظام الشيوعي في إمكان تنفيذ تهديداته. والنتيجة كانت تهافتاًً كورياً جنوبياً يابانياً على موضوع التفاوض مع الخصم التاريخي.
وفي حين أوفدت الحكومة اليابانية الأسبوع الماضي مستشاراً لرئيس الوزراء الى بيونغ يانغ تحت عنوان البحث في قضية المفقودين اليابانيين في كوريا، تحدثت أنباء عن أن كوريا الجنوبية تنوي تقديم مساعدات إنسانية لجارتها اللدود في حال أعيد إطلاق الحوار بين الدولتين.
ومن الواضح أن هذه الرغبة في الحوار لدى أهم حليفين للولايات المتحدة الأميركية في شرق آسيا جاءت كانعكاس واضح لما قامت بها كوريا الشمالية على مدى أسابيع من تهديدات بحروب وضربات صاروخية الى مناورات عسكرية مكثفة وصولاً الى قيامها بتجربة 6 صواريخ مختلفة المديات خلال يومين (18_20 أيار).
ولم تتوقف بيونغ يانغ عند هذا الحد، بل وجّهت رسالتين الى الغرب؛ الأولى تمثلت في تعيين الجنرال كيم كيوك_سيك، الذي يُعتبر من الصقور، في منصب رئيس أركان القوات المُسلّحة لجمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، وما يحمله هذا التعيين من دلالات لكونه أعلى قائد عسكري أمر بقصف جزيرة كورية جنوبية في تشرين الثاني 2010، بينما شغل المنصب نفسه قبل عام 2009.
الرسالة الثانية كانت بإيفاد الدولة الشيوعية أمس مدير المكتب السياسي في الجيش الشعبي ريونغ_هاي مبعوثاً الى الصين، وهو أكبر مسؤول كوري شمالي يتوجه الى الصين منذ زيارة الزعيم الراحل كيم يونغ_إيل للبلاد في آب2011 قبل ستة أشهر من وفاته.
وإذ يرى بعض المراقبين أن إعادة الجنرال كيم الى منصبه قد يكون رسالة صارمة الى «الأعداء»، فسّر بعضهم زيارة ريونغ الى بكين بأنها قد تكون ضمن مسعى لتقريب وجهات النظر مع الخصوم في المرحلة المقبلة إذا ما عادت عجلة التفاوض إلى الدوران، خصوصاً أن هذه الزيارة تأتي قبل نحو أسبوعين من قمة مقررة بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ونظيره الصيني، في 7 و8 حزيران في كاليفورنيا غرب الولايات المتحدة.
فمن الواضح أن اللجوء الى الصين الداعمة والحاضنة و«جارة الرضا» في هذه المرحلة بالذات، يأتي في سياق ترتيبات جديدة قد تشهدها منطقة شرق آسيا في المرحلة المقبلة.
رغم كل ما يُحكى عن انتقادات كورية جنوبية وأميركية لزيارة المسؤول الياباني لبيونغ يانغ التي لا علاقة دبلوماسية بينها وبين طوكيو، ومع أن رئيسة كوريا الجنوبية بارك كون هيه أعلنت أمس أن بلدها والولايات المتحدة لن يقدما أي دعم أو تعويض بسبب الأزمة التي افتعلتها كوريا الشمالية، فإن ما قامت به اليابان وما تسرب من سيول حول نية التفاوض مع الخصم الشمالي يؤكدان رضوخ المعسكر الغربي لتهديدات الزعيم الشاب، إذ يتخوف الجميع من أن تتحول أي حرب في شبه الجزيرة الكورية الى حرب نووية خطرة. لكن كل ما تريده سيول وواشنطن وطوكيو الآن هو إثبات أن جبهتها موحدة، قبل نحو أسبوع من أول اجتماع ثلاثي لوزراء الدفاع لهذه الدول منذ عام 2009، في نهاية أيار في سنغافورة.
لقد أعلن رئيس الوزراء الياباني المحافظ شينزو آبي أنه يريد مواصلة الحوار مع كوريا الشمالية بشأن المدنيين الذين خطفتهم بيونغ يانغ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولمّحت سيول الى تقديم مساعدات الى عدوها الشيوعي، في أعقاب إطلاق الأخير 6 صواريخ خلال يومين.
تطورات جعلت المراقبين والخبراء العسكريين في سيول يدرسون خطوة التهديدات والتجارب الصاروخية ليصلوا الى اقتناع بمدى جديتها، بعد اكتشافهم إمكانية انطلاق الصواريخ من قاذفة متعددة تم إنتاجها بتقنية جديدة يصل قطرها إلى 300 ملم، وليست صواريخ موجهة فقط، الأمر الذي يؤدي الى توسيع مداها الفعال فوق الأراضي الكورية الجنوبية. وهذا يعني أن كيم يونغ_أون ربما نجح في هزّ العصا بوجه أعدائه ليتمكن من جرهم الى طاولة المفاوضات محمّلين بمساعدات يحتاج إليها شعبه، وذلك رغم عدم تكافؤ الميزان العسكري بين الدولة الشيوعية والمحور الآخر. لكن لعبة المصالح تقتضي من كل طرف تجنّب الوقوع في التهلكة بانتظار ما ستؤول اليه صراعات المحاور الدولية في أماكن أخرى مثل الشرق الأوسط، حيث تتحول الحرب الباردة الى سخونة قاتلة يسقط ضحيتها أحجار شطرنج على رقعة اللاعبين الكبار.