لا يمكن توظيف «قوة» مارغريت ثاتشر (ميريل ستريب) في فيلم «المرأة الحديديّة» لخدمة قضيّة نسويّة. منذ البداية يجب أن يكون واضحاً: لا إمكان للقول إنها تلك المرأة التي تشبه ما هو شائع اليوم عن المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل مثلاً، إن كان هذا هو السجال. فبمعزل عن الزمن الفاصل بين السيدتين، نقل الفيلم صورة بالغة الهشاشة لزوج رئيسة الوزراء البريطانيّة (دنيس تاتشر). وهذا ليس تفصيلاً عابراً، بل إنه صلب الفيلم، الذي يصلح أن يكون عن الرجل الضعيف لا عن المرأة الحديديّة.
خلال العرض، في أكثر من محطة، تقترن قوة مارغريت بضعف دنيس؛ عندما تغادره إلى عملها، وعندما يجلس قبالتها بعينين ذابلتين في أول لقاء، وتستمر العلاقة على هذا النحو حتى موته. يمرّ الفيلم على نشأة الفتاة «العصاميّة» ابنة البقال، ولكن حياتها، عمليّاً، تبدأ بعد زواج استسلمت ثاتشر خلاله للسائد مجتمعيّاً. وكي يكون السياق «ذكوريّاً» على نحو تام، موت دنيس ليس أبديّاً في الفيلم، إذ يعود إلى حياتها، ليطالبها بمستحقاته (كزوج) التي يتيحها له النظام البطريركي. وهذه نقطة محوريّة أيضاً، وتكاد أحداث الفيلم تدور حول زوج وزوجة، لا حول «المرأة الحديديّة» بالمعنى السوفياتي للكلمة.
في خرفها، يظهر الزوج الضعيف مجدداً، بل يلازمها صلباً بعد موته، ومؤثراً على يومياتها رغم وجوده كشبح، أكثر من ظهوره الواقعي في الـ«فلاش باك» الفقير، الذي كان يفترض أن يكون سيرة ذاتيّة أمينة. إنها امرأة كرتونيّة بامتياز، وفقاً للمخرجة فيليدا لويد، وقد وضعت ضعف ثاتشر جراء الخرف في خانة الاعتذار عن السكوت على ضعف الزوج تحديداً.
في الفيلم، لا تبدي ثاتشر أي ندم على خياراتها السياسيّة، التي لا يساجل اثنان في أهميّتها، حتى إنها تقول في أحد المشاهد عن هذه القرارات إنها «غير نادمة إطلاقاً». لقد تدخل الزوج في كل تفصيل من حياتها ولم يتدخل في شيء. إنه شبح الفيلم، شبح قراراتها. لقد اتخذت قرار إغراق السفينة الحربية «جنرال بلغرانو» بنفسها، وأسفر ذلك عن مقتل 323 جندياً بحرياً أرجنتينيّاً، وكان هذا الحدث نقطة تحول في الحرب، وعودة قويّة للسيدة الرازحة تحت ضغط الاقتصاد إلى الحياة السياسيّة البريطانيّة.
وإذ نقول «بريطانيّة» لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته تاتشر في العلاقة مع الإيرلنديين. من المؤكد أن البريطانيين لا يحبّون هذه السيرة، ولذلك مرّ الفيلم على أحداث تلك الحقبة بخجلٍ مبالغ فيه. بالكاد مرت أحداث إيرلندا في الفيلم. وليس مفهوماً إن كان ذلك لأن ثاتشر كانت على قيد الحياة عندما عرض الفيلم، أو لأن الإيرلنديين لا يحبّون ذكر اسمها من الأساس. في السياسة، غرق الفيلم في مشاهد تقليديّة بمجلس العموم البريطاني، تبرئ المرأة من الحديد وتنزع منها قوتها، إذ تتلعثم في قراراتها دائماً، حتى سئم منها مستشاروها أخيراً. وهذا ليس قاسياً على امرأة اتخذت قرارات مصيريّة وحسب، بل يرمي إلى تصويرها امرأة الصدفة لا المرأة الحديديّة. امرأة الصدفة، كان هذا يصلح أن يكون عنواناً للفيلم، الذي محت فيه ميريل ستريب كل ما يمت إلى القوة بصلة من ذاكرات عارفي مارغريت ثاتشر. منذ أول لقطة وحتى النهاية، يبدو واضحاً أن الأحداث المفصليّة في حياتها ليست مستقلة عن الخرف، ثمة إرادة واضحة لترسيخ هذا المعطى في حياة الراحلة. هكذا يضع السياق المشاهد أمام خيارين. أولهما أن ثاتشر كانت «كرتونيّة» لا حديديّة، فقد وجدت نفسها في مواقع الصدفة أكثر من مرة. المرأة الحديديّة التي تعرفونها، أصيبت بالخرف، وقد تسلقت ميريل ستريب مرضها، لتؤدي دوراً ناجحاً بالمعايير التجاريّة، التي لا تلزمها الأخلاق بشيء. وهذا ما يفسر ردة فعل الجمهور والناقدين. لم «ينصف» الجمهور ثاتشر بعد الفيلم، أما الناقدون فكرّموا ميريل ستريب: «الممثلة الحديديّة».
المنتصرة الوحيدة في الفيلم هي ميريل ستريب، لقد خلدت نفسها ممثلة قوية، قادت فيلماً كلّف 14 مليون دولار، وحصد إيرادات بقيمة 114 مليون دولار. فيلم محت فيه القوة من الشخصيّة «الأكثر تأثيراً في بريطانيا بعد ونستون تشرشل». احتفظت ستريب بهذه القوة لنفسها، القوة في تصوير ثاتشر كائناً ضعيفاً إلى هذا الحد.