اسطنبول | بعد خروجة من سوريا في 9 تشرين الأول 1998 وتنقله بين اليونان وروسيا، انتهى المطاف بالزعيم الكردي عبد الله أوجلان في كينيا، حيث وجد نفسه في السفارة اليونانية يستعد للترحيل الى اسطنبول في طائرة تركية خاصة في 14 شباط 1999. وقع أوجلان في حينه ضحية مؤامرة دولية، اشتركت فيها الاستخبارت الأميركية، التي تمكّنت من اختطافه بالتنسيق والتعاون مع «الموساد» الإسرائيلي، قبل تسليمه الى فريق تركي خاص كان ينتظر في مطار نيروبي. مرّت السنوات الأربع عشرة بسرعة بالنسبة لتاريخ تركيا الحديث، لكنها لم تكن سهلة بالنسبة لأوجلان، الذي وُضع في سجن انفرادي في جزيرة أيمرلي تحت حماية 600 عنصر من العسكر والاستخبارات التركية، ومُنعت عنه الصحف ومختلف وسائل الاتصال والإعلام، باستثناء ترانزيستور صغير يستمع منه على محطة واحدة وهي الإذاعة الوطنية الرسمية.
وخلال هذه الفترة شهدت علاقة أوجلان مع الحكومة مدّاً وجزراً مثيرين. لقد استطاع حزب «العمال الكردستاني» طيلة الفترة الماضية أن يفرض نفسه على الواقع العسكري داخل تركيا، على الرغم من التفوق العسكري الكبير للجيش التركي، وخصوصاً بعد حصوله على طائرات تجسـس بدون طيار من اسرائيل وأميركا لمراقبة تحركات مسلّحي الكردستاني جنوب شرق البلاد وشمال العراق.
كما نجح «الكردستاني» في تحرّكاته الشعبية داخلياً؛ فقد صوّت أكثر من 2.3 مليون ناخب كردي لمرشحي حزب «السلام والديموقراطية»، الجناح السياسي له، في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تموز 2011، ودخل خلالها 36 كردياً إلى البرلمان. وسبق ذلك اعتراف رئيس الحكومة، رجب طيب أردوغان، في آب 2005 بالقضية الكردية، ووعد بمعالجتها سلمياً دون أن يحالفه الحظ حتى اللحظة. وكانت آخر خطواته بهذا الشأن التعديلات القانونية التي اعترفت للأكراد بالعديد من الحقوق الثقافية والسياسية، ومنها عدم ملاحقة أي شخص يخاطب أوجلان «بالسيد» قانونياً، بعدما كان على «رأس الإرهابيين»، قبل أن تبدأ معه الحكومة التركية مباحثات سرّية مباشرة في سجن أيمرلي منذ أشهر بهدف حلّ المشكلة الكردية نهائياً. كما سمحت الحكومة لزعماء حزب «السلام والديموقراطية» بزيارة أوجلان في سجنه، وهم يستعدون لزيارته مرّة أخرى هذا الأسبوع.
وكان لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني والرئيس العراقي جلال الطالباني، قبل مرضه، أدوار لافتة في إدارة عجلات المفاوضات التركية الكردية، آخرها زيارة أجراها أول من أمس، كوسرت رسول، نائب رئيس إقليم كردستان العراق والأمين العام المساعد لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي التقى الرئيس عبد الله غول وأردوغان ووزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، وبحث معهم مساعي المصالحة الكردية ــ التركية وأبعادها الإقليمية، وخصوصاً في ما يتعلق بتطورات الوضع السوري، واحتمالات تقسيم سوريا وقيام كيان كردي مستقل شمال شرقها، وعلى ما يبدو، فان أردوغان يريد أن يكون وصياً على هذا الكيان.
وهكذا شكّلت الأزمة السورية دافعاً أساسياً لأردوغان من أجل حسم قضية المصالحة مع أوجلان، على اعتبار أن حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردستاني» في سوريا يعتبر امتداداً لـ«العمال الكردستاني» التركي. وتعتقد أنقرة أن اتفاقا سرّياً موجوداً بين دمشق وهذا الحزب لخلق المشاكل لتركيا في حال تدهور الأوضاع في سوريا.
من جهة ثانية، تتحدث وسائل الإعلام التركية عن مساعي حكومة أردوغان لتوحيد صفوف المعارضة السورية في المناطق الكردية شمال شرق سوريا استعداداً لأي مواجهات محتملة مع الأكراد هناك. ونقلت صحيفة «ميلليت» خبر اجتماع سرّي لقيادات العشائر والفصائل المسلحة العربية في دير الزور والرقة والحسكة في مدينة أورفا التركية بهدف توحيد صفوفها وانتخاب قيادات مشتركة لها بدعم تركي.
ويرى «العمال» و«الاتحاد الديموقراطي» الكردستانيان، في تصرفات الحكومة التركية هذا تكتيكاً ذكياً يهدف أولاً لتضييق الحصار على النظام السوري عبر الجبهة الشمالية الشرقية، وثانياً الضغط على أوجلان لإجباره على اتخاذ قرار عاجل في ما يتعلق بالمصالحة دون الحصول على المزيد من التنازلات.
وتعتبر مصادر «العمال» الكردستاني أن أوجلان في موقع قوة ولن يتراجع عن مطالبه الأخرى مقابل وقف العمل المسلح ضدّ تركيا نهائياً، ومنها إصدار عفو عام وشامل وغير مشروط على جميع عناصر وأنصار الكردستاني والسماح لهم بالعمل السياسي الحر، والاعتراف للأكراد في جنوب شرق البلاد بحقوق الحكم الذاتي أو ما يشابه ذلك. وتتحدث الأوساط السياسية والإعلامية عن مشروع أردوغان لصياغة دستور جديد للبلاد، يهدف الى تغيير النظام السياسي من برلماني الى رئاسي ليصبح هو الحاكم المطلق للبلاد بعد انتخابات رئاسة الجمهورية في آب العام المقبل. وهو يسعى من خلال تحركاته الحالية في المصالحة، الى كسب أصوات الأكراد، بعدما أعلنت أحزاب المعارضة أنها لن تسمح له بتغيير الدستور، لذلك، هدّد هذه القوى بإحالة الموضوع الى الاستفتاء الشعبي.
ويسعى أردوغان من خلال مشاريعه الى تحويل تركيا لدولة إسلامية، بعد التخلص من جميع مؤسـسات ومرافق ومعالم وأفكار الجمهورية العلمانية التي أسسها الجنرال أتاتورك.