لم يسع البابا بنديكتوس السادس عشر في ولايته الحبرية القصيرة نسبياً إلى خطف عواطف اللبنانيين من سلفه يوحنا بولس الثاني الذي ما زال يحمل صورة البابا في رؤوس كثيرين. إلا أن تحويله اهتمامات كرسيه من إعداد سينودس لأجل لبنان فقط إلى إعداد سينودس من أجل الشرق الأوسط سيكون له أكثر من مجرد تأثير عاطفي على مسيحيي الشرق، خصوصاً أن بنديكتوس يذهب في نهاية هذا الشهر إلى تقاعده، أما فريق عمله الشرقيّ، من البطريركية المارونية إلى الكلدانية فالقبطية الكاثوليكية، فيباشر الآن فقط عمله، وأمامه سنوات طويلة قبل أن يبدأ استصعاب القيام بمهماته.
المطّلعون على العلاقة الفاتيكانية _ المارونية يروون أن يوحنا بولس الثاني كان مهتماً إثر انتخابه بابا عام 1978 بالملف اللبناني كاهتمام خليفته بعد ربع قرن. ولم يلبث الكرسي الرسوليّ المعارض يومها لتوجهات القوات اللبنانية السياسية أن أمّن فوز الأسقف نصرالله صفير بكرسي البطريركية الأول، أملاً بمحافظة البطريركية المارونية على ما تبقى للمسيحيين. إلا أن قتل المونسنيور ألبير خريش وتموضع صفير مرة مع القوات ومرة مع الطائف ومرة مع المقاطعة المسيحية واكتفاءه غالبية المرات بمربض بعض العنزات في جونية من كل أنطاكية وسائر المشرق، كفّت الجهود الفاتيكانية حتى حدود «الصلاة من أجل لبنان».
عودة الملف الشرقيّ إلى الفاتيكان بدأ جدياً مع بدء الألفية الثالثة عبر كتابات فاتيكانية تتحدث عن «الخطر الإسلاميّ المحدق بالهوية الأوروبية»، وتنامي نظرية «اضطهاد المسيحيين في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط». ومع وفاة البابا البولندي عام 2005 وانتخاب بنديكتوس بابا، يتابع مصدر كنسيّ، بات الكرسي الرسولي صريحاً في تحميله السياسات الغربية وتنامي الأصولية الإسلامية مسؤولية التهديد الجدي للحضور المسيحيّ التاريخي في المنطقة، مع كلام واضح عن وجوب القيام بعمل ما. وما كاد التغيير الإداريّ يكتمل في الفاتيكان حتى بدأت انعكاساته المحلية تظهر، وفق أحد المطّلعين، على مستويين: يشمل الأول علاقة الكرسي الرسولي بكنائس الشرق الكاثوليكية، والثاني دور بطريركية أنطاكية المارونية السياسي في العالم العربي.
فبعد اكتفاء الكرسي الرسولي، عقوداً، بمتابعة كنائس الشرق عبر لقاءات دورية يعقدها البابا مع بطاركتها، تدخل بنديكتوس السادس عشر ليس عند البطريرك نصرالله صفير فقط ليطلب منه الاستقالة، بل عند بطريرك الكلدان العراقي وبطريرك الأقباط الكاثوليك أيضاً. وكان في ودّ البابا أن يبادر هؤلاء البطاركة إلى الاستقالة من تلقاء أنفسهم كما فعل هو أمس، بدل أن يضطر إلى طلب الاستقالة منهم، مع العلم بأن الحبر الأعظم أجاب الصحافي بيتر سيوالد في كتابه «نور العالم» عن رأيه باستقالة البابا بأن «البابا ممنوع من الاستقالة في حال تهرّبه من مسؤولياته، ويتعيّن عليه الاستقالة حين لا يعود قادراً على تحمل مسؤولياته». وحرص الكرسي الرسولي، خلافاً لرغبة كثيرين في الكنيسة المارونية والكلدانية والقبطية الكاثوليكية، على التدخل في سير الانتخابات ليضمن وصول بطاركة شباب، يعرفون الفاتيكان جيداً، ولا يهابون تسمية الأشياء بأسمائها. ولم يكف الفاتيكان انتخاب بطاركة «على ذوقه»، فحرص على شمول التغيير الرهبانيات الشرقية المرتبطة به أيضاً. وبدأت لجنة فاتيكانية خاصة الإشراف المباشر على وضع هيكلية تنظيمية جديدة في بطريركيات الشرق وتراتبية إدارية وحسابات مالية واضحة. كذلك شجع الفاتيكان كنائس الشرق على اللحاق بأبنائها في بلدان الانتشار عبر إنشاء الأبرشيات الشرقية، وآخرها قبل أربعة أشهر الأبرشية المارونية في باريس. وفي ظل اعتقاد الفاتيكان أن السياسات الغربية لعبت دوراً سلبياً تجاه الوجود المسيحي في الشرق، وكذلك التطرف الإسلاميّ، لكن الدور السلبي الأكبر تتحمله الإدارة الكنسية السيئة للثروات والنفوذ. ويبدو المطلعون على هذه الورش متفائلين في استمراريتها حتى بعد تنحّي بنديكتوس، مؤكدين أن ولايته القصيرة أنشأت كنائس شرقية كاثوليكية جديدة، لا يمكن أن تحيد سريعاً عما رسمه الفاتيكان لها.
أما في ما يخصّ الدور المارونيّ، فيروي أحد المتابعين أن الاهتمام الكنسي اللبناني كان ينصبّ على نحت فنان إسباني تمثالاً لمار مارون في باحة القديس بطرس في الفاتيكان، أما الاهتمام الفاتيكاني فكان ينصبّ في المقابل على اكتشاف جذور مار مارون في الريف الحلبيّ وملاحقة خطواته الهرملية. وفي العظات البابوية تركيز على جذور الموارنة، وليس أجنحتهم. والذين زاروا الفاتيكان من سياسيين ورجال أعمال فوجئوا بمقاطعة المعنيين في صناعة القرار الفاتيكاني لهم أثناء كلامهم، لسؤالهم عمّا يعرفونه عن أوضاع المسيحيين في سوريا اليوم. حتى إن نواباً حاليين وسابقين آثروا أخيراً عدم مرافقة البطريرك في احتفال تعيينه كاردينالاً لعدم سماع المعزوفة الفاتيكانية نفسها عن «استدراك أخطاء العراق» و«إنقاذ ما يمكن إنقاذه». ويشير أحد رجال الدين الكسروانيين إلى أن عقلاً جديداً يدير الفاتيكان اليوم، يرفض منطق إدارة مسيحيي الشرق كفّهم السوريّة لتصفعهم عليها الأصولية الإسلامية بعد صفعة كفّهم العراقية. ولا يحتاج الكرسي الرسولي إلى ملاحظات بعض السياسيين ورجال الدين اللبنانيين، فلديه ما يكفي من الدراسات العراقية واللبنانية أيضاً عن انعكاسات الحرية الأميركية والديمقراطية وغيرهما على مسيحيي الشرق الأوسط. بناءً على ذلك، كان لا بدّ من إخراج الكنيسة المارونية من جبل لبنان. إخراج استوجب أن يزور بنديكتوس بيروت في ظروف ما كان أحد من المحيطين به يصدق إمكان نجاح الزيارة فيها، وترقية البطريرك بشارة الراعي ليغدو كاردينالاً، مع العلم بأن الكاردينال بشارة الراعي سيشارك 119 من زملائه في انتخاب البابا الجديد، خلافاً للكاردينال صفير الذي لا يسمح عمره بذلك. والأكيد ختاماً، بحسب المطّلعين عن كثب على الشؤون الفاتيكانية، أن ما فعله بنديكتوس السادس عشر كان كتابة عمر جديد لكنيسته، لا يتوقع أحد اليوم في الفاتيكان عودة عقاربه إلى الوراء.