يوم انتخب ذلك الكاردينال الألماني، صاحب الوجه الجامد، خليفة بطرس، في 19نيسان 2005، لم يتحمس له كثير من اللبنانيين. قيل يومها إنه ظلم بوصوله بعد «الساحر البولوني»، كارول فويتلا. وقيل إن المقارنة لن تكون لمصلحته، مهما قال ومهما فعل. فانتخابه بابا لم يكن الحدث. بقدر ما ظل غياب يوحنا بولس الثاني هو الجاذب واللافت والعنوان. وفي أيام حبريته الأولى، ظل يتأكد ذلك الانطباع. كانت تعززه كل يوم طوابير المؤمنين بالآلاف، الذين كانوا يقفون في صف طويل، يلتف حول أعمدة برنيني في ساحة البازيليك الرائعة، ينتظرون دورهم للمرور أمام ضريح البابا الراحل. وهو انطباع لم يلبث راتزنغر نفسه أن عززه، حين بادر إلى تسريع دعوى تطويب سلفه. اللبنانيون عاشوا تلك المفارقة أكثر. فهم اعتادوا وجه يوحنا بولس. عشقوا ابتسامته وسلامه. لا بل تربوا على صلواته من أجل وطنهم، ودعائه للسلام في بلاد الأرز. لم يكن ينقصهم لتطويبه عندهم باكراً، غير دعوة فويتيلا للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة الجامعة، إلى جمعية خاصة للأساقفة من أجل وطن واحد، ووطن صغير، اسمه لبنان. بعدها كانت أيقونته الشهيرة: «أكبر من بلد، إنه رسالة في الحرية والتعددية، للشرق كما للغرب»، ليصير معشوقاً هنا، معبوداً، بلا سجالات ولا ملاحظات ولا ردود.
كل ذلك كان مثقلاً على عاتق راتزنغر، قبل أن ينطلق. بعدها بعام ونيف، جاءت محاضرته الشهيرة في جامعة غيتسبورغ، واستشهاده بنص قديم عن الإسلام، ليزداد البُعد. قيل يومها إن خليفة فويتيلا اختار «حربه». تماماً كما فعل من قبله سلفه البولوني. فيوم وصل صديق فيشنسكي وبوبيلوسكو وليش فاليسا إلى سدة البابوية، كان العالم يعيش آخر فصل من فصول الحرب الباردة. وسرعان ما اتخذ يوحنا بولس الثاني موقعه فيها، ضد الشيوعية. حتى قيل بعد عقد ونيف إن ما دك أسوار الستار الحديدي كان ذلك المثلث البولوني: فاليسا في غدانسك، بريجنسكي في البيت الأبيض، وفويتيلا في روما. ولما وصل راتزنغر إلى سدة روما، كان العالم يعيش أول فصول ما اعتقد أنه الحرب الباردة الجديدة. حرب الغرب مع الإسلام. فلما حاضر البابا الجديد في تلك الجامعة الألمانية العريقة، قيل إنه يكرر سيناريو سلفه، يدخل حلبة الاستقطاب العالمي الجديد، من بوابة الوقوف مع الغرب ضد الإسلام، تماماً كما وقف فويتيلا مع الغرب ضد موسكو...
لكن لم يلبث أن ظهر خطأ ذلك الانطباع؛ إذ لم تتأخر انتقادات بندكتوس لبيئته ومحيطه. لم يترك مناسبة لم يستغلها ليوجه ملاحظاته حول الرأسمالية، وحول ضياع القيم الإنسانية في عالمها، وحول مجتمع الاستهلاك وزمن تشييء الإنسان وعصر تنسيب المثُل. حتى ذهب أبعد في ترسله للحقيقة، مهما كانت صعبة أو جارحة أو محرجة. فدعا إلى «أنجلة جديدة لأوروبا»، معتبراً أن القارة القديمة قد فقدت حضارة الإنجيل، بما هي حضارة الحرية المسؤولة، والحقيقة المطلقة، والمحبة المجانية.
هكذا أعاد اللاهوتي الكبير قراءة تاريخ الكنيسة والحروب الصليبية. صحح وأوضح واعتذر بجرأة أدبية تاريخية. هي الجرأة نفسها التي لم تخنه لحظة في مقاربته أشد المسائل خلافية وحساسية، من تورط بعض رجال الدين في قضايا جنسية، إلى مواضيع أخلاق الحياة وسط تطور العلم السريع والمذهل، وصولاً إلى السياسة. ففي السينودس الخاص بالشرق الأوسط الذي دعا إليه وترأس أعماله في روما في 10 تشرين الأول 2010، بدا كأنه على علم نبوي بالتطورات الآتية عصفاً بهذه المنطقة. أنذر ونبه وأرهص، بدءاً من مأساة مسيحيي العراق، وصولاً إلى مأساة كل إنسان في ظل الاستبداد. وفي كل ذلك، كان راتزنغر مدافعاً عنيفاً عن مبدأ اللاعنف. لم يتراجع لحظة، ولم يساير أو يناور. كيف لا، وهو من كتب قبل ثلاثة عقود، من موقعه رئيساً لمجمع العقيدة والإيمان، في ظل يوحنا بولس، الرسالة الشهيرة في «الحرية المسيحية والتحرر»، التي شكلت الرد اللاهوتي القاطع على لاهوت التحرير، بتعليمها النهائي برفض العنف، وتأكيدها أن التحرر كاملاً يمكن أن يتحقق بالمفهوم المسيحي بواسطة النضال السلمي لا غير. القاعدة نفسها لازمت موقف من أصبح بابا، حيال تطورات الشرق الأوسط في العامين الماضيين، من مصر إلى سوريا، ومن العراق إلى لبنان. رغم كل الانتقادات التي حاول البعض سوقها ضد مواقفه من أحداث هذه البلدان. حتى كانت عبارته الأحب إلى قلبه، تلك الكلمات الإنجيلية التي اختارها شعاراً لزيارته الأخيرة لبيروت: سلامي أعطيكم.
من لحظة إعلان تنحيه، فاضت التساؤلات في روما وأنحاء العالم كافة، على محورين: لماذا هذه الخطوة بهذا الشكل المفاجئ؟ وماذا بعد راتزنغر؟
وفي المجال الأول كان الدافع الأبرز إلى طرح السؤال كون روزنامة قداسته، التي ما زالت منشورة على موقعه الفاتيكاني، حبلى بالمواعيد والمحطات. يكفي أن نذكر أنه قبل أيام، في الأول من شباط الجاري تحديداً، كان قد أرسل بركته إلى سيد بكركي، طالباً منه أن يقوم شاب وشابة لبنانيان، بكتابة تأملات يوم الجمعة العظيمة، على أن يتلواها مع قداسته وغبطته أمام الكوليزيوم الشهير في روما، في 29 آذار المقبل. فضلاً عن البرنامج الكامل لاحتفالات البابا شخصياً في زمن الفصح، طوال تلك الفترة وحتى قداس القيامة المجيدة في 31 آذار. ما الذي تغير فجأة إذن؟ هل طرأ في الأيام القليلة الماضية طارئ صحي، اطلع عليه قداسته، واتخذ قراره في ضوئه، تماماً كما كان قد أسدى النصيحة بالتنحي إلى سلفه سنة 2002؟
أصحاب المخيلات المؤامراتية من جهة أخرى، أعادوا التذكير بسلسلة صعوبات داخلية واجهت البابا منذ نحو عام ونيف. منها العثور على أحد المسؤولين عن أمنه ميتاً داخل حرم الفاتيكان. ومن ثم تسريبات صحافية في كانون الثاني 2012، عن صراع نفوذ وأجنحة داخل الكرسي الرسولي، إثر تعيين السفير البابوي الحالي في واشنطن كارلو ماريا فيجانو، ونقله من منصبه الإداري في الفاتيكان. وقيل يومها إن الصراع محوره الشخصية الثانية من حيث الأهمية في روما، أمين سر الدولة الكاردينال ترسيزيو برتوني الذي عينه البابا في هذا المنصب عام 2008، والذي يعتبر يده اليمنى.
لكن الأكثر غرابة في هذا المجال، أنه قبل ذلك التسريب الذي عرف في الصحافة الإيطالية باسم «فاتيليكس»، نشر خبر في صحيفة إيطالية أخرى بتاريخ 30 كانون الأول 2011، عن مذكرة سرية مكتوبة باللغة الألمانية، رفعها أحد الكرادلة إلى المسؤولين عنه في الفاتيكان يقول فيها إنه سمع حديثاً منقولاً عن الكاردينال باولو روميرو أسقف باليرمو أثناء زيارة قام بها للصين، أنه يتوقع موت البابا خلال الأشهر الاثني عشر المقبلة، أي نهاية عام 2012 أو بداية عام 2013!! وأن من المحتمل أن ينتخب مكانه بابا إيطالي، هو أنجلو سكولا أسقف ميلانو. ويقول كاتب المذكرة إن الحديث كان من الخطورة التي دفعته إلى الكتابة باللغة الألمانية التي يتقنها البابا كي لا يلفت أنظار المسؤولين الآخرين.
وفيما سارع الناطق الإعلامي الفاتيكاني الرسمي إلى نفي هذه الرواية، واصفاً إياها «بأنها هذيان واضح لا يمكن أخذه على محمل الجد»، رأى فيها بعض المعلقين نوعاً من بداية مبكرة لوراثة البابا، وتعبيراً عن الرغبة في أن يكون البابا المقبل إيطالياً. وفي ذلك الوقت كان راتزنغر يضع لمساته الأخيرة على ملف تكريس 22 كاردينالاً جديداً، يشكلون وزناً راجحاً في مجمع الكرادلة الذي سينتخب البابا الجديد، بعد 28 شباط، وهو ما يثير المفاجأة اليوم؛ فالمذكرة السرية صحت، بالتنحي لا بالموت، وإن بفارق أسابيع إضافية قليلة. والأهم أن الكاردينال سكولا الذي توقعت المذكرة نفسها أن يكون البابا المقبل، هو فعلاً أبرز المرجحين اليوم لخلافة راتزنغر. هل هي مجرد مصادفة، أم أكثر؟ سؤال لن يجد جواباً علنياً له. فالمدينة الخالدة لا تركن إلا إلى إلهامات الروح القدس، ولا تؤمن بسواه رفيقاً معزياً ومقوياً. فهي في النهاية صخرة بطرس، حيث الإيمان المسيحي الراسخ بأن أبواب الجحيم قد تكون مفتوحة من حولها، لكنها لن تقوى عليها أبداً.
أما في بيروت، فتبقى تلك الملاحظة التي سمعها بعض المشاركين في رفع البطريرك الراعي إلى رتبة الكاردينالية، في تشرين الثاني الماضي، من أن روما تنظر إلى سيد بكركي على أنه صاحب دور كنسي أكبر من كنيسته وأوسع من لبنان. فهل يتحقق الحلم؟



الإسلام والمسيحيّة معاً بلا كراهية

في ما يلي مقتطفات من كلمته في بكركي صبيحة 15 أيلول 2012:
■ أيها الشباب اللبناني، أنتم رجاء ومستقبل بلدكم. أنتم لبنان، أرض الضيافة والتناغم الاجتماعي وأصحاب المقدرة الهائلة والطبيعية على التأقلم. وفي هذا الوقت... شباب لبنان، كونوا مضيافين ومنفتحين، كما يطلب منكم المسيح، وكما يعلمكم بلدكم
■ أريد أن أحيّي الآن الشبيبة المسلمة الحاضرة معنا هذا المساء. أشكركم لحضوركم البالغ الأهمية. فأنتم والشبيبة المسيحيون مستقبل هذا البلد الرائع والشرق الأوسط برمته. اعملوا على بنائه معاً، وعندما تصبحون بالغين، واصلوا عيش التفاهم في الوحدة مع المسيحيين. لأن جمال لبنان يكمن في هذا الاتحاد الوثيق
■ على الشرق الأوسط بأكمله، عند النظر إليكم، أن يدرك أن بإمكان المسلمين والمسيحيين، الإسلام والمسيحية، العيش معاً بلا كراهية ضمن احترام معتقدات كل شخص لنبني معاً مجتمعاً حراً وإنسانياً
■ علمت أيضاً أن بيننا شبيبة قادمين من سوريا. أريد أنْ أقول لكم كم أقدّر شجاعتكم. قولوا في بيوتكم، لعائلاتكم ولأصدقائكم، إن البابا لا ينساكم. قولوا لمن حولكم إن البابا حزين بسبب آلامكم وأتراحكم. لا ينسى سوريا في صلواته وهمومه