نيويورك | في كوينز، نيويورك، تعلم أن الفجر قد بزغ عندما تنطلق صفارة القطار السريع الأول أو تسمع هدير طائرة أقلعت من مطار غواردا. لا صياح ديك أو آذان مسجد. لا عواء كلب أو قطة، ولا بكاء طفل ولا حتى نقيق ضفدع. فجر اليوم الأخير قبل نهاية العام، خرقته صيحة ألم عالية أيقظت بعض سكان الحي. كانت لرجل لا يُعرف إن كانت صادرة عن جنون أو خمر أو صادرة عن وجع. تطل رؤوس قليلة من النوافذ. في الشارع سيارة الشرطة، ومن خلفها سيارة إسعاف. يتوقف الصراخ سريعاً. هدوء يخيم. يتقدّم ضابط نحو سيارة الشرطة الوحيدة. ينطلق بها بهدوء. تسير من خلفها سيارة الإسعاف ومن خلفها سيارة مدنية. في وقت لاحق، تعلم أن مواطناً فقد حياته. يمضي الموكب بسكون تام، لا ترتيل لا أجراس، لا قداديس. بعدها بقليل، تخرج ماري، السيدة الخمسينية، قبل السادسة صباحاً مع كلابها الثلاثة الضخمة، من فصيلة «الراعي الألماني»، كما يسميها الأميركيون، و«شيان لو» كما يسميها اللبنانيون. تسير في نفس الشارع لترويضهم بعد ليلة كاملة من الدوران داخل الشقة. باتت ظيفتها الوحيدة، بعد فقدان مركزها كممرضة في مستشفى الأمراض العقلية في كوينز قبل عام، البحث عن قوارير بلاستيكية فارغة تبيعها لمركز إعادة التدوير، لكي تحافظ على بقاء الكلاب ورفاهيتها، وعلى إزعاج الجيران. الحياة من دون الكلاب انتحار. ماذا قد تفعل كل هذا الوقت وحدها؟ أخوها الوحيد يقاضيها في المحكمة لانتزاع الشقة التي تسكنها. أنفقت على القضية كل ما ادخرته، وتكاد تخسرها. لا عجب أن تجن، وأن تطلق العنان لجنونها.
اقتربت الساعات الأخيرة من نهاية السنة الميلادية 2012. لم ينته العالم مع نهاية روزنامة الأنكا. ربما انتهى بالنسبة للهندي سوناندو سين على يد أريكا مننديز، التي رمته نحو القطار ثأراً لـ«غزوة مانهاتان». وانتهى العالم بالنسبة لأطفال مدرسة كنكتيكت العشرين، وبالنسبة لمدرسيهم ومدرساتهم التسع الذين قتلهم مجنون في العشرين من عمره يدعى آدم لانزا. وربما بالنسبة لسكان حي بريزي بوينت، في منطقة الروك أواي، الذي التهمه إعصار ساندي قبل أسابيع، فيما لا يزال سكانه وسكان أحياء عديدة هائمين على وجوههم بعد نفاد أموال الإغاثة.
لا يتعلق الموضوع بالخبز اليومي؛ فالخوف على المستقبل بدأ منذ ليلة نهاية السنة مع بحث مستقبل الرواتب والميزانية الاتحادية. كل شيء هنا يتوقف على الرواتب وكوبونات الإعاشة، التي تأتي في نهاية كل شهر أو أسبوع. حتى المتسول الأميركي في الشارع ينتظرها لأن من يساعدونه على البقاء لا بد أن يقبضوا أولاً. الأثرياء من الحزبين تركوا الأمور معلقة للساعة الأخيرة. كل شيء يخضع للصفقات هنا، ولا أحد يخشى ثورة الجياع. إنهم يعلمون أن الأميركيين مفكّكون أكثر من العرب. هكذا برهنت حركة «احتلوا وول ستريت». تستطيع أن تحرك ميدان صنعاء وميدان التحرير وحي الميدان في دمشق، لكن لا تستطيع إيجاد ميدان واحد في نيويورك للاعتصام به ولا يكون ملكية لشخصية أو لشركة. تفسير التفكك الأميركي لا يمكن أن يكون من خلال كتب ابن خلدون أو ماركس، بل في سينما هوليوود. منذ سنوات والأميركيون يشاهدون مواسم من مسلسل الرعب «الموتى السائرون» للكاتب فرانك دارابونت. عُرض الموسم الأول منه في تشرين الأول 2010، والآن بدأ عرض الموسم الثالث، وينتظر أن تستمر المواسم تباعاً أكثر من مسلسل وادي الذئاب التركي. إنها قصة مجتمع أميركي أصيب بمرض غامض، حوّل غالبية الأميركيين إلى وحوش ميتة دماغياً، لكن بأجساد متحركة، تحاول افتراس الفئات الضعيفة منها. العمل التلفزيوني لا ينقطع فيه إطلاق الرصاص على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ والرجال غير المسلحين. ولا يتوقف القتل بالفؤوس والسواطير والسيوف وحتى بالأوتاد وتهشيم الرؤوس بهراوات البيسبول. هذا المسلسل يحظى بأعلى نسبة مشاهدة بين المسلسلات التلفزيونية الأميركية قاطبة. تلقى أعلى الجوائز على الإطلاق، ووُضع على أعلى سلم الدرجات في مقياس «نيلسون». مشاهدوه عبر شبكة الكابل يحصون بعشرات الملايين، مع أن مشاهدته لا تصلح لمن هم دون 16 سنة.
لهذا المسلسل الجنوني أبعاد كثيرة من حيث علاقة الأميركي بالمدينة والبندقية وبالآخر. تكون فيه المدينة الخراسانية عبارة عن غابة تقفز منها الوحوش البشرية البشعة المكشرة عن أنيابها من كل سطح بناية أو مرأب في أسفلها، وعند كل إشارة مرور. وحوش بعمر الأطفال أو الشيوخ، من البيض والسود والإسبان والهنود. وحوش مضرجة بالدماء تنهش الأحشاء بأبشع الصور.
مقابل صورة المدينة الغابة، هنالك صورة البرّ الأميركي بغاباته الطبيعية وأنهاره وجباله وأوديته الخلابة. ذلك البرّ البكر النائي عن المدينة يختزن الفردوس الموعود. لكن فقط لفترة من الوقت. الوحوش تتسلل إليه بعد حين. إليه لاذت فئة من الناجين مبتعدة عن عدوى المرض الغامض. تلك الفئة مؤلفة من بطل من رجال الأمن، وطبيب أبيض طيّب. هذه المجموعة الطيبة تتعرض للهجوم من مجتمع الوحوش المجنونة، وعليها الدفاع عن نفسها بالقتل المستمر طيلة النهار والليل.
هذا المسلسل الأميركي الطويل يعطل كل حجة لدى المطالبين بوضع حد لامتلاك السلاح الفردي. الأميركيون يتعاطون مع الخيال بكثير من الاعتناق، كما لو أنه واقع. ربما يكون من الصعب أن تقنع بعض الأميركيين أن أبطال «والت ديزني» غير موجودين في حيز الواقع. وبدون سلاح كيف تدافع هذه الفئة الطيبة عن نفسها إذا ما جنّ جنون الرعاع؟
إنها معادلة بين نخبة فاضلة ناجية من حقها أن تدافع عن نفسها ضدّ مجتمع أكثر سوءاً وخطراً من مجتمع «مزرعة الحيوانات» لجورج أورويل. إنه مجتمع من الأنفس العائدة من المقابر، فلا ضير من إعادتها إليها. بل الخير كل الخير في ذلك. لم تخرج النازية الألمانية بفكرة أكثر شيطانية مما يعرضه هذا المسلسل. والأميركي يرقص حتى من دون دفّ. ألا يقتل بالطائرات بدون طيار من القواعد الأميركية في أي بقعة من العالم على الشبهة فقط؟



كارهون ومختلون في الشوارع

في محطة قطارات الأنفاق القريبة في شارع 40 من جادة كوينز، دفعت أريكا مننديز (31 عاماً) مساء الخميس الماضي المهاجر الهندي سوناندو سين (46 عاماً) ثأراً لـ«غزوة مانهاتان». قيل إنّها تكره المسلمين. ولا تعرف لماذا تكره الهنود منذ أيلول 2001. عندما شنّت مجموعة بن لادن السعودي الهجوم، كانت أريكا في التاسعة عشرة. لكنها لم تنس، واختارت الانتقام قُبيل نهاية 2012.
أُلقي القبض على أريكا يوم السبت، أي بعد يومين على ارتكاب الجريمة. وفي اليوم التالي، واجهت إريكا حساباً سريعاً في المحكمة بتهمة القتل بدافع الكراهية، ما يعطيها خمس سنوات سجن إضافية فوق الحكم المؤبد، الذي يصل إلى 15 عاما. في تقرير نُشر أخيراً، يتبين أن عدد المجانين في شوارع نيويورك تضاعف أربع مرات بعد الإعصار ساندي عما كان عليه قبله. والسبب أن المرضى الذين تحولوا إلى مشردين بعد تدمير أحياء بكاملها لا يجدون أماكن لهم في المستشفيات. مستشفيات كانت تعاني في الأساس، وقبل الأزمة المالية من ضعف الموازنة ولا تستقبل المجانين بسهولة. كثيرون منهم من أمثال آدام لانزا يكرهون أطفال المدارس والأمهات والمدرسين والمدرسات. وآخرون منهم مثل أريكا مننديز يكرهون المسلمين والهنود. وفي مجتمع يعجز عن رعاية المختلين عقلياً واحتضانه في مصحات، يصعب التمييز بين العاقل وفاقد العقل.