نيويورك | النفط ليس مادة وقود حيوية فحسب، بل إنه يمثل ايضا ميزاناً فعلياً لأسواق المال تقتدي بقيمته. وعندما قررت منظمة «أوبك» التخلي عن دعم سعر النفط، لم تستهدف شركات إنتاجه العالية التكلفة فقط، بل أثرت في أسواق المال والأوراق المالية لمصلحة الولايات المتحدة على حساب الدول المنتجة، وذلك في أسعار الصرف وحركة الاستثمارات. الدولار ارتفع من حيث القيمة، وبات جذاباً للمستثمرين، بينما شهدت العملة الروسية مزيداً من التدهور في قيمتها لتبلغ خسارة الروبل، حتى الآن، حوالى 53 في المئة من قيمته قبل الأزمة الأوكرانية مقترباً من 50 للدولار.
أيضاً شهدت البورصات الأوروبية قفزاً من الأبراج من دون مظلة، يوم الجمعة الماضي، مباشرة بعد الإعلان أن «أوبك» قررت إبقاء إنتاج 30 مليون برميل يومياً، أي بواقع مليون برميل فائض عن الحاجة. وكانت أسهم شركات النفط الأكثر تأثراً، وسط توقعات بوقف مشاريع استثمار في قطاعي النفط الصخري والنفط القطبي بقيمة 100 مليار دولار، الأمر الذي سيكون له تأثير طويل الأمد في القطاعين.
ولكن الولايات المتحدة كانت مستفيدة كثيراً من ارتفاع سعر برميل النفط، الذي تجاوز حاجز المئة دولار ووصل في ذروته إلى قرابة 148 دولاراً على مستويين: الأول بتعديل قيمة الدولار الذي هبط إلى مستويات قياسية وساهم في تخفيف قيمة المديونية الدولارية الأميركية، والثاني في تشجيع الصناعة النفطية الصخرية التي تصل تكلفة إنتاج كل برميل فيها إلى 80 دولاراً. وقد تدفقت الأموال من الأسواق المالية مستثمرة في هذه الصناعة، مما جعل إنتاج النفط الأميركي يرتفع بمعدل مليون برميل يومياً في كل عام على مدى ستة أعوام، بينما وصل الإنتاج اخيراً إلى تسعة ملايين برميل.
لا تزال البلاد مستورداً للنفط، لكنها إذا واصلت التحليق بهذا المستوى، وبقيت أسعار النفط على معدل فوق ثمانين دولاراً، فإنها ستصبح عما قريب دولة مصدرة للنفط. وفي المقابل، هبطت واردات الولايات المتحدة النفطية من دول «أوبك» بنسبة تزيد على النصف.
كل هذا مهدّد بالتبدّد والانهيارات لن تتوقف عند شركات النفط الصخري العالية المديونية، بل من المرجح أن ينتقل عسر الهضم إلى قطاع المصارف الذي قد يواجه عبء ابتلاع القروض التي ضخها في القطاع. وهذه النتيجة لا تنحصر في المصارف الأميركية، بل تشمل مصارف أوروبية أيضاً مقرضة لشركات النفط. وفي هذا الإطار، يشار على سبيل المثال إلى أن مصرف «باركليز» البريطاني لديه 850 مليون دولار ديوناً نفطية. أزمة تضاف إلى الأزمات المالية التي تمرّ بها عواصم المال منذ عام 2008، لكن تبعاتها ستكون متفاوتة. تخسر شركات النفط والطاقة لتكسب قطاعات استهلاكية أخرى بفضل سعر البنزين المنخفض. وقد أقفل سعر برميل «وست تكساس»، الجمعة، على مستوى يقل عن 66 دولاراً بعد تدافع المستثمرين خروجاً من عقود آجلة.
أما الآثار على أسواق العملات ومستقبل خريطة الاستثمارات، فإن ما صنعته «أوبك» بقرارها سيترك أثاراً بالغة الأهمية في هذا المجال. صحيح أن النفط لم يعد بالأهمية نفسها كما في أواخر القرن العشرين بعد التقدم التكنولوجي الكبير الذي تحقق في محركات السيارات وفي تنمية مصادر الطاقة البديلة، ولكن حتى الآن ليس هناك بديل عنه لوزن قيمة العملات.
في السبعينيات وبعد سقوط القاعدة الذهبية كمعيار قيمة واستبدالها بالدولار، تحديداً في عام 1971، مثّل النفط المعيار الحقيقي لقيمة الدولار. وسار الدولار في خط معاكس لسعر برميل النفط ضمن معادلة طردية، كلما هبط سعر البرميل ارتفعت قيمة الدولار الشرائية بالمعيار النفطي ومقابل العملات الأخرى، وكلما ارتفع السعر حصل العكس. والسبب يعود ببساطة إلى أن عوائد النفط دولارية، وكلما زاد سعر البرميل حصل فائض في العرض النقدي الدولاري. وللأسباب ذاتها، كانت مؤشرات البورصات ترتفع مع هبوط سعر برميل النفط، وتنخفض بارتفاعه، فالمستثمرون يتبعون عادة عملة الاقتصاد الأقوى.
وكان من نتائج ارتفاع قيمة الدولار وهبوط سعر برميل النفط، وقوع كوارث مالية في الدول الصاعدة اقتصادياً، ولا سيما تلك التي قّومت ديونها بالدولار. الكل يذكر أزمات الأرجنتين التي أعلنت إفلاسها في مطلع القرن الحالي (2001)، وأزمة البرازيل قبلها بثلاثة أعوام. فقد حصلت الأزمات الآسيوية في الفترة ذاتها، أي في أواخر التسعينيات، والأسباب المباشرة هي أن سعر صرف عالٍ للدولار الأميركي يعني ارتفاعاً شديداً في مديونيات تلك الدول، وذلك فيما قفز سعر صرف العملة الأميركية بنسبة الثلث خلال عشرة أعوام.
يستبعد المحللون الماليون تكرار سيناريو أواخر القرن الماضي، لجهة حصول انفجار بالونات المديونية بناء على التطورات الحالية، بفضل تغيّر جوهري في سياسات المصارف المركزية وحتى التجارية. صحيح أن الدولار المرتفع سيجلب استثمارات أكبر إلى بورصات الولايات المتحدة من خارج القطاع النفطي ويحرم بورصات أخرى منها، لكن غالبية الدول النامية اقتصادياً، مثل البرازيل وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وحتى روسيا، ليست مديونة خارجياً بل لديها مخزون جيّد بالدولار في مصارفها، والفضل يعود في ذلك إلى قواعد الملاءة التي فرضت، كما أن الصين التي كدست تريليونات من الدولارات تستفيد كثيراً من ارتفاع قيمة العملة الأميركية على كافة الصعد.
وانخفاض سعر النفط بهذا الشكل الكبير كما حصل خلال الأشهر الماضية (حوالى 35 في المئة)، يعني فائضاً مالياً في يد المستهلك الأميركي والأوروبي، إضافة إلى قدرة شرائية عالية للدولار في الأسواق الأخرى. بعبارة أخرى، يمكن توقع عودة النمو الاستهلاكي من حرق الطاقة في سيارات الأميركيين وإنفاق المزيد من الأموال في المحلات التجارية والنزهات والرحلات السياحية والحد من ارتفاع تذاكر السفر.
وفيما لم يعد أحد يتوقع عودة التضخم حتى إلى اليابان التي تنتظره بفارغ الصبر، إلا أن التضخم سينمو في الدول التي تشهد هبوطاً في قيمة عملاتها، كروسيا مثلاً. وهنا تكون «أوبك» قد وجهت طعنة لها ولفنزويلا وإيران ونيجيريا على المدى المنظور.
ارتفاع سعر صرف الدولار يعني أيضاً أن الفوائد المصرفية ستبقى منخفضة إلى وقت طويل، لأن هبوط سعر النفط يقلص تكلفة الإنتاج ويقّلل قيمة فاتورة المحروقات. وكل هذه التطورات تجعل الأميركي أقدر على زيادة الاقتراض مقابل مسكنه أو أصوله العينية الأخرى، كما تسمح للشركات بالتوسع والنمو بفضل تكاليف اقتراض منخفضة قد تمتد إلى وقت طويل وزيادة في قدرة المستهلك الشرائية.
الخبراء يرون أن الهبوط الأخير في سعر برميل النفط يترجم بوفر للمستوردين، يصل إلى 550 مليار دولار، أي ما يعادل 0،7 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي.
قرار «أوبك» طبعاً في يد السعودية، المنتج الأكبر الذي يبدو مدافعاً عن حصة المنظمة السوقية، والذي دخل في حرب مكشوفة ضد النفط الصخري ومشاريع النفط العالية التكلفة الأخرى. فخفض الإنتاج مليون برميل لن يجدي نفعاً، بل يساعد قطاع الإنتاج العالي الكلفة. وإذا كان الخاسر الرئيسي في الوقت الراهن منتجو النفط، سواء في روسيا أو إيران أو حتى الشركات في الولايات المتحدة، فلم يعد ممكناً فصل الطاقة وتقلباتها عن الاستراتيجيات الدولية.
النفط كان سلاحاً في السبعينيات ويبقى سلاحاً في القرن الواحد والعشرين. ولكي تكون الدول النفطية الخليجية رابحاً في حرب «أوبك»، لا بدّ أن تكون قادرة على المحافظة على أمنها وسط محيط ملتهب.
في هذا الخصوص، يبرز الإرهاب سواء في العراق وسوريا أو في نيجيريا أو اليمن كعنصر جديد في المعادلات النفطية. فلم يعد ممكناً احتساب كلفة إنتاج النفط في العراق أو حتى في قطر والكويت والسعودية والإمارات بناء على تكلفة الضخ فحسب، بل دخل العامل الأمني كعبء مالي إضافي يصعب تجاهله. شركات الطاقة ما عادت تؤمّن على موظفيها في كافة الدول النفطية، سواء في الشرق الأوسط أو في أفريقيا، من هجمات إرهابية، ولا سيما وهي تشاهد عجز الدول عن حماية حقولها ومصافيها وأنابيب النقل. وبات عليها أن تتحمّل نفقات حماية إضافية عبر حراسة للمنشآت والخبراء، سواء عبر شركات أمنية أو ربما بدفع خوّات لتنظيمات، تجنباً لهجماتها. وهذا الأمر ينسحب على اليمن وليبيا والجزائر ونيجيريا كما يصحّ على العراق وسوريا، كما أن الدول التي كانت تعدّ في غاية الاستقرار السياسي والأمني كالسعودية، بات ينظر إليها بحذر، وخصوصاً بعد تورّطها، في زمن الفائض المالي الشديد الذي نعمت به مع جاراتها الخليجيات، في الأزمات الأمنية والسياسية التي تشهدها المنطقة. وأخيراً، عبرت هجمات «داعش» إلى المنطقة الشرقية في السعودية، ما يعني اقتراب نار الإرهاب من الحقول.