إسطنبول ـ الأخبار نجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الأيام القليلة الماضية، في إلهاء الرأي العام الداخلي والخارجي بتصريحات سجالية، جعلته خبراً أول في الصحافة التركية والعالمية. «تركيا دولة عظيمة والقصر الرئاسي الجديد يليق بها»، «المسلمون هم من اكتشفوا أميركا»، «لا يمكن أن تتساوى النساء مع الرجال». هذه التصريحات وغيرها شغلت وسائل الإعلام التي باتت لا تركّز في تعاطيها مع تركيا إلا على أردوغان، خصوصاً في ظلّ غياب الاهتمام الإعلامي برئيس الوزراء أحمد داود أوغلو الذي بات أداةً تنفيذية لأوامر رئيس الجمهورية وتعليماته وتوجيهاته.
كان «رضوخ» داوود أوغلو كافياً ليكمّل صورة «الحاكم المطلق» التي بات أردوغان يمثلها فعلياً. يتصرّف أردوغان وكأنه يمتلك صلاحيات مطلقة، ليس فقط في السياسة الداخلية، بل أيضاً في ما يتعلق بالسياسة الخارجية وفي أمور الحزب الحاكم ومجمل الأمور الاقتصادية التي يقرر مصيرها بنفسه من دون أي منافس أو معترض، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في الصيف المقبل، حيث سيقرر بنفسه أسماء المرشّحين عن حزب «العدالة والتنمية»، في محاولةٍ جديدة وربما أخيرة للتخلص من جميع «معارضيه» داخل الحزب، وهؤلاء المحسوبين على الرئيس السابق عبدالله غول أو الأمين العام السابق للحزب إدريس شاهين.
يهدف أردوغان من حملة التصفيات داخل الحزب، إلى إحكام سيطرته الكاملة والمطلقة على شؤونه، ولاحقاً على البرلمان والحكومة بهدف تغيير النظام السياسي إلى رئاسي، بحيث يصبح رئيساً بكامل الصلاحيات الدستورية، مثلما هي الحال في فرنسا.
كذلك، لن يتردّد أردوغان في التخلّص من كل معارضيه في جميع مؤسسات الدولة ومرافقها المختلفة، خصوصاً من أتباع وأنصار الداعية الإسلامي فتح الله غولن، بعدما منحت الحكومة، بتعليمات من أردوغان، جهاز المخابرات والأمن صلاحيات بلا حدود، أبعدت تركيا عن أبسط معايير حقوق الإنسان والديموقراطية والحريّة، وجعلتها دولة ديكتاتورية واستبدادية، «لا فرق بينها وبين ألمانيا النازية»، كما قال زعيم حزب «الشعب الجمهوري» كمال كليجدار أوغلو.
يمثل سلوك
أردوغان خطراً جدياً على مستقبل الجمهورية العلمانية

فقد نجح أردوغان، خلال المرحلة الماضية، في إحكام سطوته على المجلس الأعلى للقضاء، وقبل ذلك على معظم وسائل الإعلام، وهو الآن يسعى لإسكات صوت ما بقي منها قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة حتى يتسنّى له توجيه الناخب التركي كما يشاء والتأثير فيه عبر المقولات الطنانة المذكورة سابقاً، بعدما أثبتت التجارب أنها تدغدغ المشاعر القومية حيناً والدينية أحياناً لأنصار أردوغان وأتباعه، وفي ظلّ غياب التأثير العملي والفعال لأحزاب المعارضة التي خسرت جديتها وصدقيتها، لدى الناخب التركي الذي لا يخفي عدم ارتياحه من مجمل سياسات أردوغان وسلوكياته.
ويرى كثيرون أن هذه السياسات والسلوكيات، باتت تمثّل خطراً جدياً على مستقبل الجمهورية التركية العلمانية والديمقراطية، بسبب سياسات أردوغان ومواقفه «الدينية» على الصعيدين الداخلي والخارجي، في وقتٍ لا يخفي فيه بعض معارضي أردوغان ارتياحهم ورضاهم عن أداء الحكومة ونجاحها في معالجة الأزمات المالية والاقتصادية التي تجاوزتها أنقرة بفضل المساعدات الخليجية وسياسات الخصخصة والاستفادة من الأزمات الإقليمية، بشكل مباشر وغير مباشر، حيث زاد حجم الرأسمال الأجنبي الخليجي والسوري والعراقي والليبي الهارب من الأوضاع في تلك الدول، على ٥٠ مليار دولار، بالإضافة إلى عشرات المليارات من الدولارات التي هربت من روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، ودخلت تركيا، حالها حال الاستثمارات الغربية التي زادت هي أيضاً على عشرات المليارات من الدولارات، وباتت تسيطر الآن على ٧٠٪ من قطاع المصارف وبورصة إسطنبول.
تمنح هذه المعطيات بغياب المعارضة الجدّية واستمرار الدعم الأميركي والأوروبي لأردوغان، فرصة البقاء في السلطة لفترات طويلة، خصوصاً إذا حالفه الحظ في الانتخابات المقبلة للفوز بالأغلبية الكافية لتغيير الدستور وإحكام سيطرته المطلقة على ما بقي من أجهزة ومرافق الدولة.
في المقابل، يراهن البعض على انتفاضة «الأمة التركية»، بعدما بات واضحاً أن أردوغان يريد أن يجعل من تركيا دولة شرق أوسطية ذات طابع إسلامي على النسق العثماني، تتسم في الوقت نفسه بسمات دول الخليج، حيث يحكم الملوك والأمراء والشيوخ إلى الأبد.