لم تسلم صفقة الميسترال الفرنسية الروسية من تداعيات الازمة الاوكرانية والتوتر الاوروبي الاميركي مع روسيا، ومنها سلسلة تصريحات تصعيدية أحادية دشنتها باريس وصولاً الى تعليق تسليم السفن الحربية الى موسكو قبل يومين.بدأت صفقة الميسترال في حزيران 2011 بتوقيع عقد بقيمة 1،2 مليار يورو بين روسيا وفرنسا لبناء سفينتين من نوع ميسترال، وهي حاملة طوافات هجومية، بفعل قدرتها على الإنزال البحري، وتعتبر من سفن القيادة العسكرية.

وكان من المتوقع أن يتم تسليم السفينة الاولى «فلاديفوستوك» هذا الشهر، وهي كانت قد أبحرت للمرة الاولى في 5 آذار من هذا العام، وحملت على متنها طاقماً من مشاة البحرية الروسية للمرة الاولى في 13 أيلول، فيما ستسلّم السفينة الثانية «سيباستوبول» في خريف 2015. إشارة الى أن 400 من مشاة البحرية الروسية كانوا قد وصلوا الى فرنسا في أول تموز للتدرب على قيادة السفينتين واستخدامهما. باكراً جداً، غداة أزمة القرم ـ شباط 2014 ـ بدأت تلوح معالم تطور جديد في ملف الميسترال بين البلدين، إذ تحدث وزير الخارجية الفرنسي في 20 آذار عن إمكان تعليق التسليم، متبعاً كلامه هذا بآخر مطمئن في 23 تموز عن وجوب احترام العقود الموقعة والمسددة الثمن، قبل أن يؤكد الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، أن بلاده ستسلم السفينة الاولى في حين سيرتبط تسليم الثانية بموقف روسيا من أوكرانيا. وكانت لافتة الرسالة التي وجهها ثمانية من أعضاء الكونغرس الاميركي الى الأمين العام للحلف الاطلسي في 7 تشرين الثاني، داعين الحلف إلى شراء السفن المعدة للتسليم لروسيا، بعد يوم واحد من إعلان رئيس الوزراء الفرنسي أن شروط التسليم غير متوافرة. أخيراً جاء إعلان الرئاسة الفرنسية بتعليق التسليم أول أمس (25 ت2) ليحسم موقف باريس وينهي التصعيد المتذبذب مؤقتاً على الاقل.
لا يبدو أن موسكو مستعدة للرضوخ للضغوط الاقتصادية والسياسية


قد لا يكون قرار الرئيس الفرنسي بديهياً لمن يراجع تاريخ العلاقات الفرنسية الاطلسية. فبالرغم من كون فرنسا عضواً مؤسّساً في حلف شمال الاطلسي ودولة كبرى في المعسكر الغربي إبان الحرب الباردة، فإن هذا لم يمنع الجنرال ديغول من الانسحاب من القيادة المشتركة للحلف في 1967، من ضمن سياسته المنتهجة لضمان وضع خاص لفرنسا كقوة وسطى بين الجبارين. بقيت هذه السياسة إرثاً ديغولياً لأربعة عقود ونيف قبل أن يعلن نيكولا ساركوزي عودة فرنسا الى عضوية القيادة المشتركة للحلف عام 2009، من دون لجان البرامج النووية. يأتي قرار هولاند في سياق اصطفاف السياسة الخارجية لفرنسا الى جانب الولايات المتحدة بنحو أكثر حدة من قبل.
إضافة الى الخلفية التاريخية للموقف الفرنسي، يطرح تعليق تسليم الميسترال إشكاليات عديدة على فرنسا، ليس أقلها تأثير القرار على صفقات بيع السلاح في المستقبل، خاصة تلك مع السعودية أو الهند بشكل مباشر، حيث هناك صفقة في طور وضع اللمسات الاخيرة عليها لبيع 126 طيارة ميراج. هذه الصفقة مهمة، لأنها في حال ألغيت فستضطر الدولة الفرنسية إلى شراء الطيارات للحفاظ على إنتاجها في المستقبل، إضافة الى مؤشر لقدرة باريس على احترام توقيعها على المدى المتوسط. أما اقتصادياً، فيشكل قطاع صناعة الاسلحة بين 5 الى 8% من حجم التجارة الفرنسية الخارجية، ويؤمن حوالى 40 ألف فرصة عمل، 1000 منها في الميسترال حالياً. وهذه الصادرات، ومن بينها الميسترال، تكتسب أهمية مضاعفة في الازمة الاقتصادية وتراجع الصناعات الفرنسية، إذ ستسمح ـ إذا ما تمت ـ بتأمين توازن التمويل لقانون البرمجة العسكرية 2014-2019.
في الوقت نفسه لا يمكن إغفال الضغوط الديلبوماسية الكبيرة التي تعرضت لها فرنسا في هذا السياق، خاصة من الولايات المتحدة الاميركية والحلف الاطلسي الذي عقد قمة في 4 و5 أيلول الماضي، وكانت قضية الميسترال بنداً مهماً على جدول أعماله.
يبقى أيضاً أن هذه الصفقة وتعليقها وصولاً الى إمكان إلغائها وما سيترتب على ذلك من تعويضات ستدفعها فرنسا، تأتي من ضمن الضغوط الاوروبية والاميركية على روسيا بهدف تحقيق خرق في موقف موسكو من الازمة الاوكرانية. وهو الأمر الذي تؤكده مواقف مسؤولين أوروبيين، كالممثلة العليا للاتحاد الاوروبي للشؤون الخارجية التي صرّحت بأن روسيا ليست شريكاً استراتيجياً للاتحاد بالرغم من العلاقات القريبة معها، أو المستشارة الألمانية ميركل التي أكدت أول من أمس (25 ت2) أن العقوبات ضد روسيا ما زالت ضرورية لحملها على المشاركة في حل الازمة الاوكرانية، معترفة في الوقت نفسه بأن العقوبات تضر بالاقتصاد الروسي كما باقتصادات الدول الاوروبية.
من جهتها، لا يبدو أن موسكو مستعدة للرضوخ للضغوط الاقتصادية والسياسية، وآخرها تعليق تسليم الميسترال، خاصة أن أول رد فعل رسمي على لسان نائب وزير الدفاع الذي أشار الى أن موسكو ستلجأ إلى مقاضاة فرنسا في حال امتنعت باريس عن تسليم السفينتين، إضافة الى إمكانية استغناء البحرية الروسية عن السفن. فالميسترال سفينة مبنية وفق معايير السفن المدنية، ولا تضيف شيئاً الى التقنية العسكرية الروسية، كما لا تشكل قطعة مهمة في أسطول البحر الاسود.
في حال وصلت الامور الى مرحلة فسخ العقد نهائياً، فلفرنسا ما تخسره أكثر من روسيا، اقتصادياً وسياسياً. فهي ستدفع تعويضات كبيرة تقدر بثلاثة مليارات يورو مع التعويضات، وستزيد من صعوباتها الاقتصادية وتضرّ بتجارة أسلحتها، في حين لن تخسر روسيا إلا سفينة ثانوية بإمكان دولة تصنع غواصات نووية الاستغناء عنها.