برشتينا | فور انتهاء الحرب في كوسوفو عام ١٩٩٩، ودخول قوات حلف «شمالي الأطلسي» إلى الإقليم، أُدخلت «مساعدات إنسانية» إلى السكان الذين دُمّرت بيوتهم ومنشآتهم، وبناهم التحتية نتيجة الحرب. ودخل أيضاً العديد من المنظمات غير الحكومية التي حمل بعضها أخطر ما دخل إلى كوسوفو بعد الحرب: الفكر الديني المتطرّف.يشكو بعض السكان في كوسوفو من أن بعض تلك المنظمات «قدّمت المساعدات إلى السكان المسلمين فقط». ومعظم سكان الإقليم الذين يمثل الألبان 95% منهم، يحسبون أنفسهم شعباً واحداً. وهم يعتبرون أن «نضالهم واحد ضد القمع الصربي»، فكيف يمكن للمساعدات الخارجية أن تفرق بينهم دينياً؟ من هنا نرى كيف أن المساعدات الآتية من حكومات إسلامية، رمت إلى أهداف سياسية على المدى البعيد.

واللافت في هذا السياق، هو أنه فور انتهاء الحرب بدأت بعض الدول مثل السعودية ببناء المساجد في كل أنحاء الإقليم. ويقول رئيس كنيسة البروتستانت دريتون كرسنيكي، إن السعودية قامت ببناء نحو ٤٠٠ مسجدٍ خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية في مختلف مناطق كوسوفو. وفي الوقت نفسه، قامت السعودية بالاستثمار في قطاعات اقتصادية مهمة على المقلب الآخر من العاصمة الصربية بلغراد.
هنا، تظهر حلقة ضائعة مثيرة للريبة. وقد سأل بعض المعنيين بتسلّم المساعدات المنظمات المانحة التي باشرت ببناء المساجد بعد الحرب: ألم يرَ المانحون وهم في طريقهم من المطار الى المدينة الناس المشردين على الطرقات؟ والحاجة إلى مستشفيات، ومدارس، وبنى تحتية، قبل المساجد؟
لم يعد يخفى على أحد أن الفكر الوهابي وصل إلى كوسوفو بعد الحرب، فقد أشار العديد من السياسيين ورجال الدين في الإقليم صراحةً إلى هذا الموضوع. الجميع يعلم بوجود خلايا لتكفيريين في الإقليم، فقد جرى القبض على البعض منهم. والكل يجمع على أن «الإسلام السياسي» ليس خطراً كبيراً في الوقت الحالي، وأنه تحت السيطرة، لكنهم يعتقدون بأنه سيشكل خطراً وتحدياً كبيراً للمجتمع والدولة في المستقبل.
ويشير نائب وزير الخارجية، بتريت سلامة، إلى أن «الإسلام السياسي» في كوسوفو، «يتلقى الدعم من مصادر غير حكومية في الشرق الأوسط». ويرى أن هذا الخطر يمثل تحدياً للعملية السياسية الديموقراطية. ويضيف سلامة إن هذا الخطر سيمثل عقبة كبيرة لكوسوفو في سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
كان لكوسوفو حصة في مشاركة بعض «الجهاديين» في القتال مع الجماعات التكفيرية في سوريا والعراق، حيث جرى توثيق مشاركة بعض الشبان والقبض على آخرين مشتبه فيهم. يقول رئيس الأئمة، صبري بنغورا، إنه لا علاقة للمؤسسة الإسلامية في كوسوفو والأئمة الكوسوفيين بتجنيد أو حث الشباب على الذهاب للقتال في سوريا. ويتهم بنغورا مواقع التواصل الاجتماعي «ومن يقف خلفها» بالتأثير على هؤلاء الشباب وتضليلهم. ويضيف إنهم كمؤسسة دينية، يحاولون إقناع الشباب بأن الحرب في سوريا «ليست حربهم والقضية ليست قضيتهم». لذلك، هم يحاولون دائماً، من خلال خطب المساجد، خصوصاً، توجيه الشباب موضحين لهم أن لا مصلحة للشباب الكوسوفي المسلم بالمشاركة في تلك الحرب.
في سياق متصل، أكدت مستشارة رئيسة الجمهورية، غريناتا كرايا، في حديثٍ الى «الأخبار» أن هناك وجوداً لبعض الحركات الإسلامية التكفيرية في كوسوفو، «وقد أثبتت ذلك مشاركة بعض الإسلاميين الكوسوفيين في الحرب السورية». وطبعاً، من موقعها كمستشارة لرئاسة الجمهورية، أكدت أن ما تقوله مبني على معلومات استخبارية من جهاز أمن الدولة. ورغم تأكيدها وجود التكفيريين الإسلاميين في كوسوفو الذين يرسلون المقاتلين إلى سوريا، رفضت الإجابة عن سؤال عن الجهة التي تعتقد أنها تدعم هؤلاء المجموعات التكفيرية، في إشارة إلى أن لديها معلومات لا تستطيع البوح بها وتضرّ بالأمن القومي الكوسوفي. تؤكد كرايا أن الحكومة الكوسوفية اتخذت إجراءات لمكافحة هؤلاء المقاتلين عبر فرض قانون سجن لمدة ١٥ سنة لكلّ من يدان بالمشاركة في الحرب السورية. وتضيف كرايا إن تحدي «الإسلام السياسي» هو تحدٍّ تواجهه كل الحكومات الأوروبية، وليس فقط كوسوفو.
يرفض المجتمع الكوسوفي الذي يتسم بالنموذج الإسلامي المتسامح والمنفتح على الآخر، «الإسلام السياسي» الذي بدأ يتغلغل رويداً رويداً في المجتمع الكوسوفي، حيث يرى المواطنون قبل المسؤولين، أن الدولة الجديدة أمام اختبار وتحدّ كبيرين للتخلص من هذا الخطر المحدق بنموذجهم الفريد وبالدولة عموماً. وقد تبين ذلك من خلال الحديث مع السكان المحليين الذين يرون أن المال السياسي يهدد بتجنيد المزيد من الشباب في مجتمع تزيد نسبة البطالة فيه على ٤٠٪.
فور انتهاء الحرب بدأت السعودية ببناء المساجد في كل أنحاء كوسوفو


من هنا، يمكن طرح أسئلة عدة: أولاً عن المستفيد من نقل كوسوفو من دولة ذي إسلامٍ سمِح إلى دولة ذي إسلام متطرف. ثانياً، عن الأجندة السياسية التي تريد خلق دولة إسلامية في خاصرة أوروبا، ليكون الإقليم بوابة لدخول «الإسلام السياسي» إلى القارة العجوز. ثالثاً والأهم، لماذا هناك صمتٌ غربي عن المال الإسلامي العربي الذي يدخل البلقان؟ الأسئلة نفسها يمكن طرحها للبحث في الأزمة السورية والعراقية الحالية وصعود «الدول الإسلامية» (داعش) وحركات تكفيرية أخرى، وفي هذا الإطار هناك تساؤلات جدّية يجب إثارتها، تتعلق بنهج بعض الحكومات الإسلامية مثابل صمت الحكومات الغربية المريب عنها.
ويقول أحد الناشطين السياسيين المعارضين لاستمرار الوصاية الأميركية على دولة كوسوفو (رفض ذكر اسمه)، وهو معروف بعلمانيته واستقلالية فكره ونهجه السياسي، إن الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة قد تجعل من كوسوفو مختبراً لها لكشف شبكة التواصل بين الجماعات التكفيرية في الشرق والغرب.
لا يزال «الإسلام السياسي» والخطر التكفيري غير واضح في كوسوفو. فلو أن الإعلام لم يكشف عن توقيف بعض الشبان المتطرّفين لما كان أحد سمع بهذا الموضوع. ولربما عدم وضوح الخطر المحدق بالإقليم، قد يجعل المشكلة أكثر تعقيداً ويصعب مواجهتها. فالدولة حديثة الولادة ولن تستطيع على الأرجح أن تواجه هذه المشكلة منفردة، وخصوصاً أنها دولة فقيرة لمجتمع فقير، في مواجهة سيل من المال السياسي الغزير. وفي ظلّ الصمت الدولي (لأسباب تتعلق بمصالح اقتصادية وسياسية) عن الخطر التكفيري القادم إلى دول البلقان عموماً وكوسوفو خصوصاً، قد تدفع كوسوفو ثمن استقلالها عن صربيا أمام غياب إمكانية قيام دولة قوية قادرة على مواجهة مشروع سياسي كبير كمشروع الإسلام السياسي المتطرّف القادم من الصحراء.