«روسيا لا تزال تحبّ بوتين»، بهذا التعبير اختارت مجلّة «التايم» الإعلان أنه على الرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية ضدّ روسيا، فإنّ الارتفاع الملحوظ في شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمر يثير الدهشة.
فقد تبيّن من خلال إحصاءات قام بها مركز «ليفادا» الروسي غير الرسمي للأبحاث، أخيراً، أنّ 87 في المئة من الشعب الروسي يدعمون بوتين.

وهذه النسبة المرتفعة مقارنةً بنسبة قبول رؤساء آخرين منتخبين حول العالم، أثارت جدلاً واسعاً في الإعلام الغربي الذي جهد محاولاً إيجاد تبريرات منطقية للحبّ الذي يكنّه الروس لرئيسهم.
فبالنسبة للإعلام الغربي، الشعب الروسي يملك دوافع عدّة لكراهية بوتين: روسيا تعاني من تراجع اقتصادي مردّه العقوبات الغربية عليها، بوتين افتعل حرباً في أوكرانيا، بوتين اجتاح القرم، بوتين يتسبب بقتل مدنيين أوكرانيين، بوتين سيكون سبباً لحرب جديدة في أوروبا الشرقية. كلّها أسباب كافية لانهيار أي سلطة في أي دولة ديموقراطية. لكن في حالة بوتين يحصل العكس.
«هل العقوبات ضدّ روسيا جعلت بوتين أكثر شعبية؟»، سؤال تطرحه صحيفة «ذا غارديان» البريطانية، في محاولة لفهم سرّ هذا الرجل. أما «ذي واشنطن بوست» الأميركية، فقد نقّبت في تقرير نشرته الأسبوع الماضي في سرّ بوتين. وسأل معدّو التقرير أنفسهم: «هل هذه الشعبية حالة مؤقتة تختفي بعد انتفاء أسبابها، أم أنها قد تدوم حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ هل سيخلق بوتين في المستقبل المزيد من الأزمات ليحافظ على هذا القبول العالي؟»، وذلك في إشارة إلى أنّ الرئيس الروسي ابتدع الأزمة الأوكرانية كي يعزّز شعبيته.
لكن في الواقع، هل يحتاج رجل مثل بوتين الى إشعال حروب لمجرد البقاء والحفاظ على موقعه؟
المؤكد هو أنّ روسيا لم تشهد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي رئيساً مثل فلاديمير بوتين، فهو ليس بحاجة إلى حملة انتخابية ممولة بملياري دولار من الأوليغارشيين لتعيد له شعبيته مثل سلفه يلتسين، الذي انتخب لمرّة ثانية عام 1996 بأعجوبة. فبعدما بلغ يلتسين الحضيض وصار مرفوضاً من الغالبية الشعبية الساحقة، أعادته الأموال الطائلة والحملات الإعلامية الهائلة – التي قادها خبراء أميركيون – إلى الواجهة.
إن شعبية بوتين ليست رقماً ارتفع بين ليلة وضحاها، بل هي تراكميّة مبنيّة على أفعال قام بها على مدى أعوام من توليه السلطة في روسيا.
ومما لا شكّ فيه أنه يتمتع بصفات قيادية، فلديه كاريزما تجعل منه شخصاً محبوباً ورجلاً يتطلّع إليه شعبه. هو ليس مجرّد سياسيّ، بل «نجم» شعبي يرغب الجميع في التمثّل به.
صوره «منتشرة على الثياب والملصقات، هو موضوع لأغاني الحبّ، معلّم في رياضة الجودو، يجول في القطب الشمالي على متن غواصة مذهلة، يصطاد الدببة»، بحسب ما يذكر موقع «ميديوم» في تقرير نُشر في 14 أيلول، في سياق الحديث عن ناشط روسي يعتقد أنّ «بوتين هو الله». ووفق التقرير، فإن هدف الناشط ليس التعبير عن حبّه لبوتين وحسب، بل حثّ الناس على الصلاة والذهاب إلى الكنيسة، كأنّه «يستخدم شعبية بوتين لرفع شعبية الله».
لعلّ تشبيه بوتين بالله مبالغة، لكنه إن دلّ على شيء فهو أن بوتين قائد حقيقي، تحوّل إلى حديث الشارع منذ عامين على الأقلّ، ليس في روسيا فقط، بل في العالم أجمع.
ولكن هذه الصفات القيادية لا تكفي وحدها لجعل بوتين رئيساً محبوباً، فهي لو لم تترافق مع نتائج ملموسة على الصعيد العمليّ، لما كان لها أهميّة على الإطلاق بالنسبة للروس.
الأمان، الراحة الاقتصادية، الشعور القومي، هي أمور ثلاثة يتطلّع إليها أي شعب في العالم وينتظر من قادته تأمينها، ولقد نجح بوتين حتى الآن في ذلك، أو بتعبير آخر «أعاد إلى روسيا كرامتها»، كما يعلّق أحدهم على فيديو لأغنية روسية، «رجل مثل بوتين»، انتشر عبر موقع يوتيوب.

ماذا فعل بوتين لروسيا؟

«ليست كاريزما بوتين، وحدها، هي ما يؤمن له النجاح السياسي والاستمرارية، الروس يحبونه لسياساته وإنجازاته أيضاً»، بحسب ما تؤكد لـ«الأخبار» الصحافية الروسية ورئيسة تحرير موقع “Russia-Direct” كاترينا زابروفسكايا.
لقد عمّت الفوضى في روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي و«خسر الروس الكثير بعد التحوّل المفاجئ من أكبر اقتصاد اشتراكي في العالم إلى اقتصاد السوق، ما جعلنا نرزح تحت ضغط مالي كبير. الغالبية الساحقة عانت من انخفاض عنيف في المدخول والمستوى المعيشي، خسروا في لمح البصر ما ادخروه لسنين»، تضيف زابروفسكايا.
«مجموعات صغيرة من الأوليغارشيين المرتبطين بالرئيس يلتسين سيطروا على كلّ شيء في التسعينيات، على كلّ ما كان ملكاً للناس. الظّلم، الضعف والفوضى صارت من يومياتنا في تلك المرحلة. شعرنا بأن لا مستقبل ننتظره. والأهمّ من ذلك كلّه، الذلّ الذي كان يتآكلنا، فقد كنّا الأمة التي خرجت خاسرة من الحرب الباردة»، بحسب ما تقول الصحافية الروسية.
وتضيف إنّه في عهد بوتين بدأت تلك الحالة من الاندثار، وبدأت الأمور تنحو نحو الأفضل. أعاد بوتين العديد من المشاعر التي افتقدها الروس في المرحلة السابقة: أبرزها الشعور بالفخر والاعتزاز الوطني والاستقرار والأمن الاجتماعي. لقد «أحسسنا من جديد بأننا روس».
فما هي إذاً هذه الإنجازات التي أعادت إلى الروس كرامتهم؟
أوّلاً، على الصعيد الاقتصادي، تؤكّد الكاتبة الروسية أنّ «بوتين أقصى مجموعة الأوليغارشيين المكروهة جداً، ما ساهم بشكل كبير في رفع المستوى المعيشي للشعب، وصارت روسيا خامس أقوى اقتصاد في العالم. انخفض الدين العام من 158.7 مليار دولار أميركي إلى 61.7 مليار دولار منذ عام 2000. إضافة إلى ذلك، ارتفع التبادل التجاري مع دول أخرى بنسبة 463 في المئة والاستثمارات الخارجية بنسبة 625 في المئة. كما تطوّر القطاعان الصناعي والإنتاج بشكل ملحوظ، ما أفاد الطبقة الوسطى من المجتمع».
من ناحية ثانية، تمكّن الرئيس بوتين من السيطرة على الحركات الإرهابية التي تهدّد الأمن الروسي في شمال القوقاز، ولكن، تقول زابروفسكايا، «نحن ندرك أنّ مثل هذه التنظيمات لا يمكن لجمها بالكامل وأن تهديدها مستمرّ في أيّ وقت وفي أي مكان، وأكبر مثال على ذلك هجمات فولغوغراد قبيل أولمبياد سوتشي. كما انتشر أخيراً شريط عبر يوتيوب هزّ الإعلام الروسي، يهدّد فيه أحد مقاتلي داعش بتمدّد الدولة الإسلامية إلى شمال القوقاز. لذا نعلم أن خطر الإرهاب لا يمكن تفاديه بالكامل لأنه غير متوقّع».
أمّا أبرز ما يجعل بوتين رجل روسيا الأوّل، فهو وقوفه في وجه الهيمنة الغربية، أو بالأحرى «الضغط الغربي على روسيا»، بحسب ما تشير الصحافية الروسية، التي تضيف إنّ «الضغط الغربي هو ما لا يمكن للشعب الروسي تقبّله، ليس من المفاجئ أن تزداد شعبية بوتين في هذا السياق، لأنه استطاع بجدارة التصدّي للتهديد الغربي. الشعب الروسي يرى أن سياسات بوتين كانت ذات منفعة للمصلحة الروسية، ويؤمن الروس بأنّه كان صارماً في سياساته الخارجية. اكتسب احترام شعبه تحديداً بسبب مواجهته القويّة للغرب».
وظهر واضحاً في الخطاب الذي ألقاه بوتين في مؤتمر ميونيخ حول مسائل سياسة الأمن عام 2007، عزمه على إلقاء الضوء على هذه الهيمنة الغربية ومواجهتها، إذ تحدّث حينها أنّه «يجري تعليمنا في روسيا الديموقراطية على الدوام. ولكن من يعلمنا لا يود تعلمها لأسباب غير معروفة. وأرى أن النموذج الأحادي القطب غير مقبول بالنسبة للعالم المعاصر، بل مستحيل التحقيق أيضاً، وليس فقط لأن الموارد العسكرية والسياسية لن تكون كافية في ظل الانفراد بالقيادة في العالم المعاصر، بل لأن النموذج نفسه لا يعمل، لأنه لا يعتمد ولا يمكن أن يعتمد على القاعدة المعنوية والأخلاقية للحضارة المعاصرة».

ليس حبّاً أعمى

روّج الإعلام الغربي لفكرة أنّ شعبية بوتين «مؤقتة» ولن تدوم حتّى الانتخابات الرئاسية المقبلة. لكن كاترينا زابروفسكايا تقول لـ«الأخبار»، إن «هذا الكلام غير دقيق، بوتين لن يخسر هذه الشعبية بحسب ما يتمّ الترويج له، لسبب بسيط أنّه بناها على مدى سنوات ولا يمكن أن تنتفي ببساطة».
وعلى عكس ما يتمّ تداوله في وسائل الإعلام الغربية، الأزمة الأوكرانية ساهمت أيضاً في حصد بوتين شعبية واسعة، لأنّ «معظم الروس رحبوا بإعادة انضمام القرم إلى البلاد، فالقرم هي تاريخياً جزء من روسيا»، كما تفيد زابروفسكايا. وهذا ما أعلنه الرئيس الروسي في خطابه بعد ضمّ القرم إلى روسيا في آذار 2014، إذا قال إنّ «قضية القرم قضية ذات أهمية حيوية وأهمية تاريخية بالنسبة لنا كلنا»، وإنّ «القرم في قلوب وعقول الناس، وهي جزء من روسيا. هذا الالتزام القائم على الحقيقة والعدالة هو التزام راسخ انتقل من جيل إلى جيل».
من جهة ثانية، نشر موقع «ماشابل» الأميركي، منذ فترة، تقريراً مصوّراً عن تلفزيون «روسيا اليوم» في الولايات المتحدّة، حيث قال معدّو التقرير إنّ هذه القناة وباقي القنوات الروسية الرسمية ليست مستقلّة، بل هي «آلة بروباغندا لبوتين» تعمل للترويج له وتشويه حقيقة ما يقوم به لإظهاره دائماً بصورة ملمّعة، وهي تتلقّى أوامرها من الكرملين مباشرة. وبرّر معدّو التقرير ارتفاع شعبية الرئيس الروسي، من خلال هذه النقطة تحديداً.
لكن، وإن كان «الروس يشكّكون نسبياً بما تبثه وسائل الإعلام، فهذا الأمر لا يمنعهم من البحث في مصادر مختلفة للمعلومات»، بحسب ما تقول زابروفسكايا.
وفي هذا الإطار، تشير الصحافية الروسية إلى أنّ «الشعب الروسي يقرأ، وهو مطّلع يستخدم الإنترنت. فـ 59 في المئة منه يواظبون على استخدام الإنترنت. كذلك، فإن الشعب الروسي تاريخياً يهتمّ بالشأن العام وبالسياسة، كما تطوّر ثقافة وعلماً منذ الحقبة السوفياتية، حتى اليوم».
حبّ الشعب الروسي لرئيسهم ليس حبّاً أعمى. وهو ليس وليد «بروباغندا» إعلاميّة. يدرك الروس جيّداً أنهم بحاجة إلى قائد قوي، لكن هذا لا يعني أنّهم لا يقرأون السياسة أو «أنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم وتحديد ما يريدونه، لسنا خرافاً»، تقول زابروفسكايا.
عندما تترافق كلمة «بروباغندا» مع عبارة «شعبية بوتين»، تجعل الرئيس الروسي يبدو وكأنه المغنّي جاستن بيبر، يحاول أن يصنع من نفسه «نجماً» من لا شيء. وبالنسبة لمن يراقبون من بعيد، يبدو بوتين وكأنه يمتلك قوى خارقة قد تقلب العالم رأساً على عقب. فلنعطِ الرجل حقّه، هو ليس هذا ولا ذاك. بل بالنسبة لشعبه، هو قائد جعل بلدهم أفضل وأعاد إليهم كرامتهم، وعلى هذا هم يرون أنه الرجل المناسب في المكان المناسب.
في عالم الديموقراطية، لن يستفيد الإعلام الغربي من التنقيب في المبررات «الماورائية» لشعبية بوتين، بل على الغرب أن يتقبّل بروح رياضية هذا الواقع الذي اختاره الشعب.

أبرز ما يقوله معارضو بوتين

«من أجل السلام في أوكرانيا» نزل آلاف الروس في 21 أيلول الماضي إلى الشارع، معبّرين عن رفضهم لسياسة بوتين في أوكرانيا ودعمه للانفصاليين، بحسب ما نقلت صحيفة «موسكو تايمز» الروسية.
فإن أكثر المناهضن لبوتين هم ممن يرون أنّ ضمّ القرم إلى روسيا ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا هو أمر غير مقبول، وخصوصاً بعد الأحداث الدموية التي حصلت هناك وأدّت إلى إزهاق الأرواح وزادت الشرخ في المجتمع الروسي، وخصوصاً أيضاً أنّه تمّ تناقل معلومات عن لجنة «أمهات الجنود الروس»، حول أنّ هناك 15 ألف جندي روسي أرسلوا إلى أوكرانيا ليقاتلوا فيها سراً، وقتل منهم نحو 100 جندي في المعركة التي دارت في 23 آب 2014.
كما يرى معارضو بوتين أن من الضروري بدء عمليات تطوير الاقتصاد الروسي لإعادة رفع المستوى المعيشي، الذي ستؤثر عليه العقوبات الاقتصادية الجديدة التي تهدد قطاعات حيوية في الاقتصاد الروسي.