غلاسكو | في الحرب الأخيرة على غزة، رفعت بلدية مدينة غلاسكو الاسكتلندية العلم الفلسطيني، تضامناً مع ضحايا الاجتياح الإسرائيلي. لم تكن تلك المرة الأولى التي تختلف فيها سياسة اسكتلندا عن المملكة المتحدة رغم انتمائها إليها، وهذا ليس الخلاف الوحيد بين البلد الأم والدولة الحالمة دائماً بالاستقلال عنه. فبعد اتحاد دام ٣٠٧ أعوام مع بريطانيا، تجري اسكتلندا، اليوم، استفتاء قد يغيّر الخريطة رغم الاطمئنان الذي يحاول انصار المملكة المتحدة بثّه حيال صعوبة الانفصال.
لكن ماذا لو وقع المحظور؟
الأكيد أن الفلسطينيين سيكونون أكثر إفادة من اسكتلندا إذا ما استقلت، فالدولة التي عانت الاستعمار تعرف معنى نضال الشعوب للحصول على حريتها. فمثلاً الوزير الأول ألكس سالموند المرشح لرئاسة البلاد إن استقلت، كتب في أواخر تموز الماضي إلى رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون، طالباً منه إظهار بعض الحسم ضد ما يتعرض له أبناء غزة، كما عرضت مستشفيات اسكتلندا فتح أبوابها للجرحى والمشوّهين جراء الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ووصل التعاطف إلى حد الدعوة إلى حظر السلاح عن إسرائيل وفتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية.

ولكن من جهة أخرى، إذا جرى التصويت بنعم على الاستقلال، فإن بريطانيا ستخسر ٣٢ في المئة من أراضيها و ٨ في المئة من سكانها وستنخفض صادراتها بنسبة ٧ في المئة. ثم إن اسكتلندا تمتلك خيرات هائلة، لعل أبرزها ٩٠ في المئة من احتياطي النفط والغاز في الاتحاد الأوروبي. إذاً لنا أن نتخيل حجم الخسارة لبريطانيا لو وقع الانفصال.  
كل طرف يحاول الآن كسب الأوراق. بريطانيا تضغط، تارة تحاول الإغراء وتارة أخرى تحذر من الانفصال، لكنّ السياسيين الاسكتلنديين الراغبين والحالمين بالاستقلال يكثفون الجهود في المدن والجامعات وكلّ المحافل، يتقدمهم الوزير الأول في مجلس الشعب الاسكتلندي أليكس سالموند رئيس الحزب القومي الاسكتلندي.
يستخدم مؤيدو الانفصال أوراقاً كثيرة، يعترضون مثلاً على سوء الإدارة الاقتصادية للمملكة وتبذير إيراداتها المالية وعلى قرارات البرلمان البريطاني غير المنصفة بحق شعبهم. ينتقدون تدخل بريطانيا في العراق وأفغانستان وغيرهما ويدعمون فلسطين ونضال شعبها.
اسكتلندا التي عانت الاستعمار تعرف معنى نضال الشعوب للحصول على حريتها

الجيل الاسكتلندي الجديد ينظر إلى خيرات بلده، فيرى أن الاستقلال سيفتح مجالات للازدهار. صحيح أن الحكومة الاسكتلندية تملك سلطة تفويضية على بعض القطاعات العامة كالرعاية الصحية والشرطة، ولكن ميزانية هذه القطاعات يقرّرها البرلمان البريطاني. ثم إن أكثر القطاعات العامة كالتعليم والمؤسسة العسكرية والشؤون الاجتماعية، ما زالت تابعة لهذا البرلمان.
وخلافاً للشباب، فإن الجيل المتقدم بالسن يعتقد أن الاستقلال سيفقد البلد مكانته العالمية كجزء من دولة عظمى، وأنه سيرتب على اسكتلندا أعباء اقتصادية على المديين القصير والمتوسط، كما أنه قد يجد اعتراضات أوروبية للانضمام، إضافة إلى ذلك، فإن الضرائب قد ترتفع والعملة قد تتغير والبلاد ستكون بحاجة إلى قوانين جديدة والبطالة قد تنتشر على المدى القصير، إذا فقد كثيرون وظائفهم التي تؤمنها بريطانيا حالياً. وأيضاً، هناك بعض المؤسسات المهددة بالإقفال قبل ولادة الدولة الجديدة.  
اللافت حتى الآن أن الإعلام البريطاني يتعامل مع الاستفتاء العتيد بانحياز واضح. تجري استضافة المعارضين للاستقلال واعطاؤهم وقتاً أكثر في اللقاءات المتلفزة وفي الصحافة، فيما الإضاءة على حملات الاستقلال ضيئلة.
مهما كانت النتيجة، فإن زائر اسكتلندا هذه الأيام يلمس نبض الاستقلال عند الأكثرية. شبان يفترشون الشوارع، أغانٍ تصدح بين المنازل وفي الساحات العامة، ندوات وخطابات توعية، وقلعة أدنبرة أرجعت صدى المزامير الاسكتلندية التقليدية الشهيرة. والرجال الذين يرتدون التنانير العريقة يمشون في الشوارع ويتبادلون أحاديث الاستقلال في الحانات والخمارات وعلب الليل ومقاهي الأرصفة. هنا رغبة واضحة في ترسيخ الهوية والتاريخ والثقافة، فكل نقش في تنورة يعبر عن الانتماء إلى هذه القبيلة أو تلك، وكل حانوت يملك سجلات واضحة لنقشات القبائل والانتماءات.
التاريخ الدموي للقتال ضد الإنكليز حاضر وينبعث من تحت رماده هذه الأيام، من أجل الاستقلال. ما زال أحد أبيات النشيد الوطني البريطاني الذي عنوانه «يا رب احفظ الملكة»، يقول «احفظ يا رب المارشال واد الذي سحق المتمردين الاسكتلنديين».
أما المستقبل وإن أدى إلى الاستقلال، فإن ذلك سيكون انتقاماً شعبياً وديموقراطياً من تاريخ الاستعمار، وإن لم يؤد إلى ذلك، فيكفي الاسكتلنديين فخراً أنهم قالوا لبريطانيا «إننا سائرون فعلاً نحو الاستقلال مهما طال الزمن».