انشغل الأتراك بتفسير عبارة «تركيا الجديدة» التي اتخذها الرئيس رجب طيب أردوغان شعاراً لحملته الانتخابية. وتساءل هؤلاء عن قصد أردوغان بانتهاء «تركيا القديمة»، وعما إذا كان ذلك الشعار يعني حصراً أن عهد الانقلابات العسكرية قد ولّى.
مخاوف كثيرة تؤرق المعارضين في تركيا، أبرزها تلك المتعلّقة باحتمال انتقال تركيا إلى حكم شموليّ بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة في صيف 2015، والذهاب نحو حكم رئاسي سيؤدي حكماً إلى تعديل دستوري يجعل صلاحيات رئيس الجمهورية مطلقة. تكمن الديمقراطية بالنسبة إلى حزب «العدالة والتنمية» في الشرعية الانتخابية. غير أن المعارضين يخشون من طموحات أردوغان واستمراره في سياسةٍ تقضي على القضاء، الحريات العامة والإعلام. لطالما أعلن أردوغان أنه يريد إعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية. لكنه اليوم يطرح نفسه خليفةً لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، لبرهنة تمسكّه بالحفاظ على وحدة الأراضي التركية، ولكن من موقع إيديولوجي مختلف. فهل سيخطو «العدالة والتنمية» خطوات «الكماليين» نفسها في إقصاء «الآخر»؟ وهل سنشهد إبعاد العلويين والعلمانيين عن السلطة والوظائف العامة، مثلما جرى إبعاد الإسلاميين لعقود عن المناصب الرسمية، ومنع المحجبات من الدخول إلى الجامعات؟ كل هذه الأسئلة المشروعة تطبع المرحلة السياسية المقبلة، خصوصاً بعد بلورة صورة سلطة أردوغان وحكومته التي تمّ تأليفها بسرعة هائلة!

تشي التركيبة الحكومية الجديدة برغبة أردوغان في حكومة ظلّ


تشير قراءة اكتمال المشهد الحكومي إلى إمساك أردوغان بكل مفاصل السلطة في البلاد. أراد الرئيس المنتخب إبقاء سيطرته على «العدالة والتنمية»، بشكلٍ غير مباشر، من خلال اختيار أحمد داوود أوغلو رئيساً للحزب، بحيث يبقى أردوغان زعيماً فعلياً للحزب الحاكم. وفيما راهن البعض على استقلالية أوغلو عن أردوغان، نسي هؤلاء أن العلاقة بين الرجلين هي علاقة شراكة سياسية وإيديولوجية منذ 2002. لقد ردّد القطاع الشبابي في حزب «العدالة والتنمية» في المؤتمر العام في 27 آب الفائت شعار «علم واحد، أرض واحدة، وأردوغان واحد»، في إشارةٍ إلى جهود أردوغان في العمل على إعادة ترتيب البيت الداخلي للحزب، إذ لا يريد الرئيس المنتخب أن يلاقي الحزب مصير الأحزاب الكبرى عند رحيل رئيسه أو تولّيه رئاسة الجمهورية، مثلما جرى مع الرئيس السابق سليمان ديميريل، وقبله مع الرئيس الراحل تورغوت أوزال.
سيلجأ أردوغان إلى تفعيل سلطات رئيس الجمهورية، التي أهملها بعض الرؤساء، كي يتمكن من اتخاذ إجراءات لإحكام سيطرته على الحكومة والحزب والجيش وباقي مرافق الدولة، استعداداً للفوز في الانتخابات البرلمانية المقبلة والوصول إلى تغيير الدستور.
كذلك، تشي التركيبة الحكومية الجديدة برغبة أردوغان في حكومة ظلّ تقف خلف تلك المعلنة، وتتألف من نواب رئيس الحكومة الأقوياء: بولنت ارينتش، ويالتشين آق دوغان، وعلي باباجان، ونعمان قورتولومش، إضافة إلى مستشاري الرئيس. اللافت أن رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان لم يدخل الحكومة مثلما أشيع، بل استمر على رأس الاستخبارات العامة، في هذه المرحلة الدقيقة بالنسبة إلى تركيا. كذلك لم يتغير وزير العدل بكر بوزداغ الذي سيكمل دوره في محاربة ما يسمّيه أردوغان «الكيان الموازي»، إذ كان له دور كبير في قيادة الحملة القضائية لتصفية جماعة فتح الله غولن. وما زال متوقعاً أن يكمل ما بدأه في رئاسة الوزراء، أيضاً بالنسبة إلى وزير الداخلية أفكان آلا الذي قاد بدوره حملة ضد قطاع الشرطة الذي اعتبر «معقلاً» لجماعة غولن.
في هذا الوقت، يبدو اختيار مولود تشاووش أوغلو وزيراً للخارجية كأنه رسالةٌ إلى الغرب. فهو أكد أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سيكون الهدف الاستراتيجي للسياسة الخارجية التركية، ما يعكس ابتعاداً عن ملف الشرق الأوسط الذي سيبقى سياسياً بيد أوغلو ــ أردوغان وأمنياً بيد فيدان.
ستدخل تركيا عهداً جديداً، وستشهد تغييرات على صعيد ثلاث مؤسسات (وزارة الخارجية، المؤسسة العسكرية والاستخبارات الوطنية)، وأهمُّ هذه التغييرات: تركيبة وزارة الخارجية التي كانت أجندتها تدور حول العلاقة مع اليونان وقبرص وفيما بعد العلاقات مع الاتحاد الاوروبي. وفيما لم تكن المنطقة العربية ضمن حساباتها لأسباب لها علاقة بأيديولوجيا الدولة الكمالية، سيجري إصلاح هذه المؤسسات الثلاث لكي تتمكن «تركيا الجديدة» من ترسيخ أقدامها في المنطقة العربية. الأمر نفسه ينطبق على المؤسسة العسكرية التي كانت مهتمة بالانقلابات الداخلية والتدخل في شؤون الحكم والحرب مع الأكراد. أما الاستخبارات الوطنية فلقد كان عملها يقتصر على الداخل «ضد الخطر الشيوعي»، منذ دخول تركيا في حلف «شمال الأطلسي» عام 1952، وتركت الاستخبارات الخارجية للأميركيين والألمان في ما بعد.
ستهتم تركيا الجديدة بهذه المؤسسات التي بدأ العمل على بنائها فعلياً منذ 2007 إلى اليوم. سيستمر العمل ضمن الإيديولوجيا الجديدة للدولة التي يأمل حزب «العدالة والتنمية» الوصول عبرها إلى تغيير وجه تركيا داخلياً وتأهيلها للعب دور إقليمي. لقد خطّط رجب طيب أردوغان لتركيا كدولة مركزية قوية، مستفيدة من موقعها في المشرق ومن حاجة الغرب إليها.

تم تعديل هذا النص عن نسخته الاصلية بتاريخ 2 أيلول 2014