يخطو رجب طيب أردوغان في الداخل التركي بخطوات ثابتة، على الرغم من الانتقادات التي طاولته في الآونة الأخيرة، خصوصاً من قبل حقوقيين، على خلفية تخطيه الدستور وبقائه في منصبه رئيساً للوزراء، خلافاً للنص الدستوري الذي يمنعه من ذلك، بعدما ما بات رئيساً للجمهورية. أُخذ على أردوغان استمراره في ممارسة صلاحياته كرئيس لحزب «العدالة والتنمية»، غير أن أردوغان هرع إلى اختيار أحمد داوود أوغلو لخلافته في رئاسة الحزب الحاكم وفي رئاسة الوزراء.
اليوم، يسعى أردوغان إلى دستور جديد، يُعطي الرئاسة صلاحيات مطلقة، من أجل تغيير «وجه» تركيا والتخلّص من الفكر الكمالي. لا يبدو أن الرئيس الذي يؤدي غداً اليمين الدستورية حقّق إنجازات في سياسته الإقليمية، لكنه استطاع أن يدهش العالم بسرعة انتقاله من ضفة إلى أخرى منذ 2002 حتى اليوم.
تمكّن أردوغان في الفترة الأخيرة من إحداث نقلة نوعية في محادثاته مع «معتقل آمرلي»، زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان، بعد انقطاع المحادثات العام الماضي. أراد أردوغان تجنيب تركيا ما يمكن تسميته «الربيع الكردي»، خصوصاً في ظلّ استفادة الأكراد من إعادة رسم خريطة المنطقة وتصاعد نفوذ حزب «العمال الكردستاني» داخل تركيا. هي خطوة استباقية، ربما طمح عبرها إلى إرضاء الاتحاد الاوروبي وأميركا، ونيله دعماً منهما لسياساته، بعد انخراطه في عملية إصلاح لتحقيق حلمه الرئاسي وتظهير «تركيا الجديدة». غير أن الحديث عن طموحات أردوغان يبقى غامضاً إلى حدٍّ بعيد، قبل انتهائه من ترتيب «البيت التركي».

سيساعد السلم مع الأكراد في بناء تحالفات جديدة في المنطقة


ضمن هذا الإطار، يسعى أردوغان إلى نزع سلاح «الكردستاني»، ما قد يعتبر إنجازاً عجز عنه الجيش «الكمالي»، حتى الماضي القريب.
يحتاج أردوغان اليوم إلى أصوات النواب الأكراد عن حزب «السلام والديموقراطية» لتمرير الدستور الجديد عبر البرلمان، حيث يحتاج إلى 367 نائباً، في وقتٍ يملك فيه «العدالة والتنمية» 325 نائباً فقط.
في ظلّ المتغيرات والتطورات الجارية في المنطقة، من المتوقع أن يساعد السلم مع الأكراد أردوغان في بناء تحالفات جديدة، ما سيتيح للرئيس التركي كسب أكراد المنطقة في العراق وسوريا وإيران. ذلك، في ظلّ العلاقة الوطيدة التي تجمع أنقرة بإقليم كردستان العراق، حيث يسعى قادة الإقليم إلى دعم محادثات السلام وتقديم ضمانات لأوجلان ولأكراد تركيا.
ترى القيادات الكردية أن في الأمر «مناورة» لتجريد الحزب من سلاحه ومن خياراته السياسية والإقليمية في الصراع على المنطقة، وذلك عبر استغلال تأثير أوجلان على الأكراد. لكن الحكومة التركية تقدمت بمشروع قانون نال موافقة البرلمان، في خطوةٍ لإثبات «حسن النية» في المحادثات الجارية، ما عزّز الثقة بين الحكومة وأوجلان الذي وصف المشروع بـ«التطور التاريخي». القانون الذي يضع الإطار القانوني لعملية السلام بين أنقرة و«الكردستاني» يضمّ حزمة مواد تسمح للحكومة بالاتصال وعقد اجتماعات مع الأفراد والجماعات، حتى تلك التي يعتبرها القانون التركي «إرهابية»، داخل البلاد وخارجها على حدٍّ سواء. يمكِّنها كذلك من تعيين أفراد وإنشاء مؤسسات لتنفيذ مقررات تلك الاجتماعات، واتخاذ التدابير اللازمة لتسهيل دمج المقاتلين من حزب «العمال الكردستاني» الذين يودّون إلقاء أسلحتهم، والانخراط في الحياة الطبيعية.

يحتاج أردوغان إلى 367 نائباً لتمرير الدستور الجديد

كذلك سعى مشروع القانون إلى توفير الضمانات لتجنّب محاكمة المسؤولين الحكوميين الذين شاركوا في المحادثات مع أعضاء رفيعي المستوى من حزب «العمال»، كجزء من عملية التسوية. هي إذاً جملة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي طالب بها الحزب، من أجل الاستمرار في المفاوضات الجارية منذ أشهر للوصول إلى حل نهائي للقضية.
على الأثر، أكدت الذراع العسكرية لحزب «العمال الكردستاني» أنه «سيستكمل انسحابه إلى الجبال على الحدود مع إقليم شمال العراق، في بداية أيلول المقبل، على أن ينتهي خلال 18 شهراً من انطلاقه». وشدد على أن الانسحاب هذه المرة «سيكون تحت الرقابة القانونية، عكس الانسحاب السابق في أيار 2013». لكن العفو لن يشمل القادة الذين ستسعى الحكومة إلى تأمين لجوء لهم.
لا تريد تركيا أي برامج ترمز إلى الحكم الذاتي، وهي لم تتعهّد بالاعتراف دستورياً بالأكراد كقومية ثانية في البلاد، بل بـ«الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للأكراد». ولم تتعهد بإطلاق سراح أوجلان، بل طرحت إمكان وضعه تحت الإقامة الإجبارية، على أن تكون هذه العملية على مراحل عدة.
من جهته، يرى «الكردستاني» أن مسألة الحكم الذاتي هي حق للشعب الكردي، وأنه يجب الاعتراف بالأكراد دستورياً، مع حقهم في التعليم بلغتهم الأم، وأن يشمل العفو جميع عناصر الحزب، إضافةً إلى الإفراج عن أوجلان والعفو عن القادة العسكريين الأكراد، وإيجاد حلٍّ لاستيعابهم في مناطقهم.
يبدو أن المسار معرّض للاهتزاز وليس محصناً جيداً. هذا ما ظهر أخيراً، حين أدى مقتل ثلاثة مقاتلين من «الكردستاني»، في حادثتين منفردتين، واحدة في مقاطعة «وان» وأخرى في «ليجي» في ديار بكر، إلى خضة أمنية، بسبب نصب تمثال لمؤسس الحزب، ما أثار حفيظة القوميين الاتراك.
هذه الحادثة أثارت تساؤلات كثيرة، واضعةً محادثات السلام تحت المجهر. للمرة الأولى منذ بداية العملية يستخدم أردوغان تعابير قاسية تجاه الأكراد، حيث هدّد باستخدام القوة ضد كل من يعبث بالأمن.
وعلى الرغم من ذلك، من المتوقع ألا تؤثر هذه المواقف في المحادثات التي ستنجز في أواخر أيلول المقبل، حيث سيشرف أردوغان مباشرةً على هذه المحادثات.
يعتقد أردوغان أن أعداءه يتربّصون به من أجل إجهاض هذه المحادثات. هو يريد من أوجلان نزع سلاح الحزب تدريجياً، أي ترك السلاح والمساهمة الكردية في تمرير الدستور الجديد، فيما يريد أوجلان الخروج من السجن إلى الحرية. يصبو أردوغان إلى انتزاع اعتراف العالم بأنه «صانع سلام».




وداعاً عبدالله غول؟

ينعقد في أنقرة اليوم مؤتمر لحزب «العدالة والتنمية» لاختيار خلف للرئيس المنتخب رجب طيب أردوغان في رئاسة الحزب الحاكم، وبالتالي في رئاسة الوزراء. المؤتمر الاستثنائي يأتي قبل يومٍ واحد من انتهاء ولاية الرئيس عبد الله غول رسمياً، وأداء أردوغان اليمين الدستورية.
غداً، يخرج غول (63 عاماً) من قصر «شنقايا» الرئاسي، بعدما نجح أردوغان في إخراجه مرحلياً من الحياة السياسية الفاعلة، بعد قطع طريق رئاسة الحزب والحكومة على «شريكه»، مفضّلاً وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو لخلافته في المنصبين.
ومع ذلك، من المستبعد أن يخرج غول من الصورة نهائياً، وألا يعود إلى المناصب الرسمية في تركيا، حيث يرى البعض أن مكانة غول السياسية القوية تدلّ على أنه لا يزال قوة كامنة في حال تعرّض حزب «العدالة والتنمية» لانقسامات داخلية حادة في المستقبل. وذلك على الرغم من أن التجربة أثبتت أن «الصمود» في وجه «السلطان المودرن» مهمةٌ شاقة.