حقّقت السياسة الروسية انتصاراً مهماً في الصراع الدائر مع الغرب الاستعماري حول أوكرانيا. تعاملت مع أوراق القوة التي تمتلكها ببراعة منقطعة النظير، بعدما فهمت أن الصراع الأساسي في تلك المنطقة يدور حول عزل شبه جزيرة القرم عن روسيا، وبالتالي عزلها عن البحر الأسود، ما يعني قطع اتصالها بالبحر الأبيض المتوسط، وذلك بعدما وضع الغرب نظرته الاستعمارية القديمة في أهمية وضرورة عزل روسيا عن المياه الدافئة موضع التنفيذ، لكن القيادة الروسية أدركت منذ اللحظة الأولى أن القرم هو الهدف الرئيس لهذه المعركة، فقامت بتأمين شبه الجزيرة في معركة سياسية ضخمة انتهت بإجراء استفتاء شعبي، عبّرت فيه شعوب القرم عن شعورها بطلبها الاستقلال عن أوكرانيا، والانضمام إلى الاتحاد الروسي.
ويُرجح أن تعمد روسيا، بعدما أمّنت حدودها الجنوبية، لفترة على امتصاص النقمة الغربية والأميركية لمفاعيل إعادة ضمّ القرم إليها، من أجل إعادة الهدوء وتبريد الأجواء المشحونة، ثمّ البدء بهجوم سياسي معاكس يضمن استقرار الأوضاع السياسية في أوكرانيا، ومعها المصالح القومية لروسيا.
بات واضحاً أن الصعود الثاني لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990 والصمود السوري الأسطوري في وجه المؤامرة الدولية عليها أدّيا إلى تراجع هيمنة أميركا والغرب الاستعماري، وظهور عالم متعدد الأقطاب، يستطيع أن يُجهض مخططات الغرب، بل ويرد عليه بحزم وقوة، وبات الغرب مرغماً على التفكير قبل الإقدام على مغامرة غير محسوبة، وخير دليل على فقدانه هيبته وتراجعه هو عدم قدرته على اتخاذ اجراءات ضد موسكو وحلفائها على مستوى العالم. يبدو هذا جليّاً من تلك العقوبات التي يُهدّد بها موسكو، فقد جاءت هزيلة غير ذات معنى سوى الرغبة في إظهار أنه لا يزال يمتلك المبادرة، وأنه قادرٌ على فرض شروطه على من يشاء... حتى على دولة بحجم روسيا!
من غير المعلوم ما إذا كان الغرب يُدرك أنه بفشل مقاطعته لروسيا سيفقد جزءاً آخر مهماً من قدراته الاقتصادية بالضغط على الشعوب الأخرى، وبالتالي سيجري القضاء على قدرته في استغلال سلاح العقوبات الاقتصادية. واقع سيفتح المجال أمام دول المقاومة للمشروع الغربي لخلق آليات اقتصادية جديدة على المستوى الدولي، بعيداً عن نفوذ وتأثير الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ويبدو من صلابة الموقف الروسي أنه جرى البدء باتخاذ الخطوات العملية لمثل هذا المشروع الدولي والمهم.
اليوم يظهر العجز على أميركا وأوروبا إزاء القضية الأوكرانية، من إشارات رئيس الوزراء الأوكراني يتسنيوك (الصورة) في خطابه الأخير قبل يومين بقوله: «إنّ مسألة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ليست مطروحة في الوقت الراهن، وذلك بهدف الحفاظ على وحدة البلاد، وكذلك تأجيل توقيع الجزء الاقتصادي من اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تحسباً لقلق المناطق الصناعية شرق البلاد، وأن التوقيع سيكون فقط على الجزء السياسي من اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الذي سيجري في 21 آذار». قال ذلك بالرغم من القناعة السائدة بأن هذا الأمر سيؤجّل أيضاً، كما قدم رئيس الوزراء تعهداً واضحاً بنزع السلاح من كافة المجموعات المسلحة، وجمّد قرار منع اللغة الروسية وغيرها من الأمور التي إن عنت شيئاً، فهو الاستجابة للمطالب الروسية، والسعي إلى تهدئة الأمور مع موسكو، والبحث عن سبل الحل السياسي. فهمت كييف أنّ الولايات المتحدة والغرب غير قادرين على مساعدتها سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، وليس لديهما إلا «النوايا الخبيثة»، حسب تعبير الرئيس الروسي. ويتضح من مسار الأحداث أن على الغرب الآن البحث عن وسيلة للاقتراب من روسيا وتهدئة غضبها، بعدما فشل مخططه في إبعاد موسكو عن شبه جزيرة القرم. بات يُدرك أن البحث عن المواجهة مع روسيا سيكون مكلفاً وفوق طاقات وقدرات الغرب، الذي سينحصر همّه لاحقاً في صد الهجوم الروسي السياسي في دول شرق أوروبا، بعدما أيقنت هذه الدول عدم قدرة الغرب على حمايتها، وأنها ليست سوى أدوات في معركته الرئيسية مع روسيا.