صحيح أن البلدان الأوروبية تعاني من ارتفاع معدلات البطالة، من المديونية العالية ومن التباطؤ الاقتصادي، إلا أنّ وضع الاقتصاد الروسي ليس أشفى حالاً، بل ربما أسوأ. يعتمد الخبراء الذين يروّجون لهذا التحليل على المنطق الآتي: يمثّل النفط والغاز حالياً قرابة 75% من الصادرات الإجمالية للاتحاد الروسي، أي أعلى بسبع نقاط مئوية من المستوى الذي كان سائداً في الاتحاد السوفياتي في أتعس أيامه، أي مطلع الثمانينيات.
هذا المؤشر يُظهر مستوى ارتهان الكرملن لأسعار الموارد الطبيعية، بحسب التحليل نفسه. اليوم تحتاج السلطات الروسية إلى أن يبقى سعر برميل النفط فوق مئة دولار كي لا تعاني من عجز في الموازنة العامّة. من هنا، على الرغم من أنّ النفط والغاز يولّدان الأموال السخية ــ وهي أموال أمّنت لفلاديمير بوتين صعوداً سلساً على سلّم العظمة القومية منذ مطلع الألفية وتؤمّن له سلطة مستدامة وألعاباً أولمبية بكلفة 50 مليار دولار ــ إلا أنّ هذه الوضعية غير صحية. فتصريف النفط والغاز يتعلّق بحاجة السوق الدولية وطلب الأمم المختلفة للطاقة. صحيح أنّ قطع الإمدادات الروسية قد يؤثّر في السوق، ولكن يُمكن بحدود معينة تغطية النقص (علينا ألا ننسى أن الولايات المتّحدة نفسها تتجه لتخطّي غريمتها في المعسكر الشرقي في إنتاج الوقود الأحفوري).
يبرز هذا التحليل في وقت تستعد فيه أروقة الدبلوماسية الغربية أو «غير الدبلوماسية»! إلى فرض عقوبات، وتحديداً اقتصادية، على روسيا، بسبب تدخلها المباشر في الأزمة الأوكرانية. يجري التلويح بطيف واسع من أدوات العقاب واللجم. هذا العقاب متاح رغم الثنائية القطبية التي تعزّزت خلال السنوات العشر الماضية، وذلك بناءً على معطى أساسي: القوى الاقتصادية الصاعدة، رغم تنامي نفوذها، لا تزال بعيدة نسبياً عن فرض معادلات نقدية واقتصادية جديدة في العالم.
يبقى النظام النقدي العالمي يتحكّم في باقي المقومات التي تعتمد عليها البلدان المختلفة لصوغ استراتيجياتها. فلنبحث حالة بلد يُنتج مواد أوّلية كما هي حالة روسيا. بعد تغطية احتياجاته الداخلية ــ في حال كان مؤهلاً لذلك، أي يتمتّع بالمصافي اللازمة لتقطير الخام النفطي ــ عليه أن يُصدّر الفائض لكي يحصّل عملات صعبة يستخدمها في شراء سلع أخرى يحتاج إليها أو يستثمرها في معدّات إنتاجية أو يدّخرها للأجيال اللاحقة عبر صناديق تُسمّى سيادية.
ولكن بمجرّد أن يفرض النظام المالي والنقدي العالمي عقوبات تتبناها بلدان أساسية في الرأسمالية الكونية، يدخل البلد المنبوذ في دوامة صعبة. أوّلاً، سيصعب عليه تصدير فائضه من الموارد الأولية إلّا عبر الالتفاف على العقوبات الدولية. ثانياً، حتّى تشغيل المصافي سيُصبح معقداً، لأن هذه الماكينات تحتاج إلى قطع غيار لا يُمكن الحصول عليها من الخارج في حالة العقوبات.
لقد عانت إيران بشدّة من عقوبات كهذه. وقد وصل لؤم العلاقات الدولية إلى درجة تهديد المرضى في المستشفيات الإيرانية بقطع الدواء «الدولي» عنهم.
ولكن هذه ليست الرواية كلّها. ففيما تنتشي أميركا بثورة النفط والغاز من الطبقات الصخرية، تبقى أوروبا إلى حدود كبيرة مرهونة للإمدادات من الشرق. اليوم فيما ترفع واشنطن سقف الحديث عن عقاب «الدب الشرقي»، هناك موقف آخر من القارة العجوز: ألمانيا تُعدّ المستورد الأوّل للنفط الخام والمكثفات من الوقود الأحفوري الروسي، تليها هولندا، لتحلّ الصين ــ التي تُعدّ من وجهة نظر العلاقات الاستراتيجية الدولية حليفاً لروسيا ــ في المرتبة الثالثة. في الواقع، الأمر لا يتعلّق فقط بالنفط والغاز. فالأحاديث التي دارت خلال اليومين الماضيين في الصالونات السياسية والمالية في أوروبا تركّزت أساساً على إمكان فرض عقوبات على النظام المصرفي الروسي، بحيث يُحظر على كلّ مصرف يتعاطى مع البنوك الروسية أن يُتمّ عملياته عبر النظام المالي الأميركي، وقد يخضع لعقوبات بدوره في حال تبيّن تورّطه. إنها الاستراتيجية نفسها التي اعتُمدت مع الإيرانيين.
تسرَّبَ من تلك الصالونات، خلال اليومين الماضيين، امتعاضٌ دبلوماسي أوروبي من السقف الذي رفعته الولايات المتحدة عبر التلويح بالعقوبات القاسية من هذا النوع. الجوّ الذي يبثّه السياسيون من أمم أوروبا الوسطى يريد عقوبات مباشرة وإن معتدلة لكبح الفورة الروسية. غير أنّ هذه الدعوات تصطدم برفض بلدان مثل إيطاليا وألمانيا وهولندا التسرّع في العقاب (ألمانيا وهولندا أوّل الرافضين، وهما أساساً أول المستفيدين من الطاقة الروسية).
«إنها لعبة الشرطي الجيد والشرطي السيّئ» تنقل صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية عن «مسؤول أوروبي رفيع». «البلدان الأوروبية الأساسية ــ المملكة المتحدة، فرنسا وألمانيا ــ تقول إنّ من غير المفيد الطلب من روسيا التهدئة، ولكنها في الوقت نفسه تفرض العقوبات».
تبقى العقوبات المصرفية التي تُعدّ عامل شلل مالي حقيقي، إجراءً احتياطياً إذاً، على أن تُعتمد إجراءات أخرى أكثر اعتدالاً، مثل تجميد أرصدة مسؤولين روس، كما حصل مع أموال الرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش و17 شخصاً آخرين من نظامه أو فرض حظر على تأشيرات السفر. كذلك يُمكن اللجوء إلى تسوية مثل معاقبة المسؤولين الروس المسؤولين تحديداً عن «اجتياح» شبه جزيرة القرم.
لا شكّ في أن الولايات المتحدة تبقى حاملة لمفاتيح أساسية في الاقتصاد العالمي: الدولار عملته الأساسية، وحجم الاقتصاد الأميركي هائل مقارنة بباقي كيانات هذا الكوكب. ليس هذا فقط، إذ بعد الركود العظيم الذي مرّ به العالم منذ عام 2008 تبدو الولايات المتّحدة الأكثر انتعاشاً بين البلدان الصناعية، وتنظر بطرف عينها إلى البلدان النامية (تحديداً مجموعة BRICS) التي تخشى تباطؤ نموّها في مرحلة حساسة من الصعود وتحفيز الطلب الداخلي. ولكن لأسباب عديدة، تبدو روسيا اليوم مختلفة كثيراً عن حالة حالة إيران، وبالتالي أمام تهديد العقوبات. أوّلاً، نحن نتحدّث عن بلد نووي من الطراز الأوّل. ثانياً، هذه «أمّة عظيمة» لا تزال حتّى الآن جزءاً من مجموعة البلدان الثمانية العظمى. ثالثاً، تُثبت روسيا عبر الصراع الدائر في الشرق الأوسط الذي يُعدّ أحد أكثر الأقاليم استراتيجية في العالم، أنّها تدافع بشراسة عن نفوذها، وقد أظهرت أن شراستها تزداد كلما اقترب الخطر من حدودها الغربية.
جميع هذه العوامل تؤكّد أنّ الدولار قد لا يكون ناجحاً كثيراً في ليّ ذراع روسيا على الحلبة الكبيرة، وإن كان بمقدوره توجيه ضربة قاضية للروبل في أي يوم. فإذا فُتحت أبواب الأزمة على مصراعيها وتخطّت حلبة المعقول دبلوماسياً، فإنّ نيران جحيم عالمي جديد قد تحرق جميع الأوراق الخضراء في كلّ خزائن العالم.




قد يتلقّى الروبل الروسي أكثر من ضربة خلال الفترة المقبلة، وتحديداً إذا تصاعدت حدّة العقوبات الغربية على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية. ولكن من السخافة الإيمان بأنه يُمكن تقويض نفوذ روسيا باستخدام العقوبات الاقتصادية. سيناريو كهذا قد يفتح أبواب الجحيم مرة ثالثة