علّقت أوكرانيا في 21 تشرين الثاني 2013 توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وأعادت التفاوض مع الدول الأعضاء في الاتحاد الجمركي. أمر أدّى إلى تظاهرات واحتجاجات، وخصوصاً من قبل الطرف المؤيد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. منذ ذلك الحين تعيش أوكرانيا أزمة سياسية ومواجهات أمنية أدّيا إلى اتفاق سياسي أُفرج بموجبه عن رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو، وسحب البرلمان السلطات من الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وحولها إلى رئيسه فلاديمير تورتشتينوف، بالإضافة إلى البدء بإجراء مشاورات بشأن تشكيل أغلبية برلمانية جديدة وحكومة وطنية.
بغض النظر عن شرعية قرارت البرلمان أو عدمها، فقد أعادت هذه الأحداث الصراع الغربي الروسي إلى العلن، وأثارت التساؤل عن مستقبل وحدة أوكرانيا في ظل هذا الصراع المتجدد.

أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا

تتعدد أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا، استراتيجية، جيوسياسية، اقتصادية ولوجستية. من هذا المنطلق تُعدّ أوكرانيا خاصرة روسيا الرخوة وقلب الدفاع العسكري عنها، تماماً كما حصل في الحرب العالمية الثانية عندما اتخذ الألمان من أوكرانيا قاعدة لبدء قصف ستالينغراد. تتمثل الأهمية الجيوسياسية في أنها بوابة للنفوذ الروسي في أوروبا وطريق إمداد الغاز الروسي إليها. مثلاً، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اتخذ السوفيات من أوكرانيا مركزاً لامتداد نفوذهم السياسي نحو رومانيا وهنغاريا. لا تقلّ الأهمية الاقتصادية واللوجستية عمّا سبق؛ فالاقتصاد الروسي يعتمد على أوكرانيا من خلال عائدات الغاز وفي مجال الإنتاج الزراعي، كذلك تُعَدّ الموانئ الأوكرانية في أوديسا وسباستبول ركيزة دعم خط التجارة الروسي. تسمح هذه الموانئ للسفن التجارية وللأسطول العسكري الروسي بوجودها في البحر الأسود والعبور منه إلى المياه الدافئة. من هذا المنطلق، ترى روسيا أن أي زعزعة للأمن في أوكرانيا هي تهديد مباشر لأمنها القومي، وأن أي دعم خارجي للمعارضة الأوكرانية يعدّ جزءاً من المشروع الأميركي الهادف إلى محاصرة روسيا.
من جهتها، تستمر الولايات المتحدة في مشروع محاصرة روسيا، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد صراعاً محتدماً بينهما في مجلس الأمن وخارجه على سوريا وفي ظل انهيار الأحادية الأميركية وعودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية. شبّه مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغينو بريجنسكي في كتابه (ﺭﻗﻌﺔ ﺍﻟﺸﻁﺭﻨﺞ ﺍﻟﻜﺒﺭﻯ، 1998) المنطقة برقعة الشطرنج، ورأى أن أي صراع جيوسياسي في أوروبا سيكون كل من حلف شمالي الأطلسي، روسيا، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، أحجاراً أساسية فيه. من هذا المنطلق تجد روسيا نفسها مهددة من حلف شمالي الأطلسي الذي أُسس لضمان بقاء النفوذ الروسي خارج القارة الأوروبية، حسب وصف الأمين العام الأول للحلف اللورد إيسماي 1989 في معرض حديثه عن أهداف الحلف؛ «لإبقاء السوفيات خارجاً». وفقاً للنظرة الروسية، لم يقتصر التهديد الأميركي لروسيا فقط على حلف الأطلسي، بل تعداه إلى مشروع التكامل الأوروبي، منظومة الردع الصاروخي، الاتفاقيات التجارية مع الدول الأوروبية المستقلة عن الاتحاد السوفياتي، دعم المنظمات غير الحكومية في «نضالها» من أجل حقوق الإنسان، وأخيراً الثورة «البرتقالية» في أوكرانيا في عام 2004. إذاً، تُعدّ الساحة الأوكرانية من أهم ساحات المواجهة الروسية - الغربية. في المقابل، تعتبر الولايات المتحدة الأميركية المشروع ﺍﻷﻭﺭﺍسي الذي تتبناه موسكو بمثابة عودة النفوذ الروسي في أوروبا من البوابة الأوكرانية، لذلك وجب محاربته لإضعافها.
في السياق نفسه، يرى بريجنسكي أن روسيا بعيدة عن أوروبا ومن ﺩﻭﻥ ﺃﻭكرﺍنيا ستصبح دولة ﺃكثر «ﺃسينة» (ﺫﺍﺕ ﻁابع آسيوﻱ)، ولكنها وفي حال توافر علاقة قوية مع أوكرانيا ستصبح روسيا «قوة إمبريالية عظمى».

حرب باردة جديدة

ظهرت في أوكرانيا أجواء الحرب الباردة بين كل من روسيا وأميركا. وقف السيناتور الجمهوري جون ماكين في مدينة كييف، في وسط الميدان وقال لهم: «نحن ندعم حقوقكم في الحرية والكرامة، أميركا معكم»، ولم يُضع «الرادا» الأوكراني أو مجلس النواب وقتاً طويلاً لإلغاء ما يعرف بقانون السياسة اللغوية للدولة الأحد، فألغى بذلك وضع اللغة الروسية في أوكرانيا باعتبارها لغة وطنية ثانية. إن الهدف الرئيسي من كل ما يجري يتمثل في سحب أوكرانيا من دائرة النفوذ الروسي وتقييد نفوذ الأخيرة في أوروبا، تماماً كما فعل وزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر مع مصر في عهد الرئيس أنور السادات منذ ما يقارب 40 عاماً.
في المقابل، عملت روسيا على اتباع استراتيجية التشكيك بقدرة الحلفاء وصدقيتهم، وذلك من خلال إحراج الاتحاد الأوروبي وأميركا وإظهار عجزهم عن دعم الاقتصاد الأوكراني عندما خفضت سعر الغاز الروسي إلى النصف، وعندما منحت قرضاً لكييف تبلغ قيمته 15 مليار دولار في مقابل الـ 5 مليار الأوروبية (جمّدت روسيا القرض بعد الأحداث الأخيرة). اتُّبعت ذات الاستراتيجية في جورجيا عندما تدخلت موسكو عسكرياً في عام 2008 وأحرجت أوروبا وأميركا، بارزة عجزهما عن الدفاع عن حليفتهم جورجيا.
إذاً، إنها الحرب الباردة بمعطيات جديدة بين روسيا التي تستعيد حضورها، وأميركا التي تتراجع قوتها. إنها الحرب الباردة مع تغيير في قواعد الاشتباك التي يطغى عليها الطابع الجيوسياسي الذي لا يلغي ذاك الأيديولوجي.

السيناريوات المحتملة

كان من المتوقع أن يُتوصَّل إلى اتفاق سياسي أوّلي يهدف إلى إدارة الصراع، وذلك في ظل السيناريوات المطروحة، حرب أهلية أو تقسيم أوكرانيا. سيناريوات يرفضها كل من روسيا والاتحاد الأوروبي لارتباطها بأمنهم القومي. من هذا المنطلق، أسهم تطور العنف في الرفض الدولي لسيناريو المواجهة، وبالتالي تفضيل تبريد الأجواء وتعجيل الاتفاق السياسي الذي جرى برعاية روسية ـ أوروبية وموافقة أميركية، خشية من أي تقارب روسي ألماني. إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو عن طبيعة التوجه السياسي الجديد لأوكرانيا، هل ستكون مع الغرب ضد روسيا أم في الوسط؟ إن القراءة الموضوعية للأحداث لا تسمح للحديث عن انتصار غربي أو انهزام روسي في أوكرانيا، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: عدم اكتمال المشهد؛ إذ إن هوية الحكومة المقبلة ونتائج الانتخابات المقبلة يشكلان جسر عبور في تحديد الوجهة السياسية لأوكرانيا.
ثانياً: تعامل موسكو مع الأحداث يبرز إلى العلن استراتيجية الرئيس فلاديمير بوتين في التعامل مع أوكرانيا، المتمثلة في التحكم السلبي «Negative Control» عوضاً عن التحكم الإيجابي «Positive Control»، ما يعني أن موسكو غير مهتمة في التدخل المباشر في الشؤون الداخلية لكييف، لكنها ستمنع قيام أي حكومة معادية لموسكو؛ لأن أهمية «معركة» كييف بالنسبة إلى بوتين تعادل أو تزيد على أهمية معركة ستالينغراد بالنسبة إلى ستالين.
ثالثاً: سيكون للتاريخ، الدين العام والتداعيات المستقبلية على الشأن الاقتصادي، الدور الأكبر في تحديد وجهة الحكومة الجديدة. لعلّ من المفيد في هذا المجال أن يجري الشعب الأوكراني قراءة لما يسمى «الربيع العربي» وإجراء مقارنة بين الآمال الحميدة والنتائج المخيبة.

صراع جيوسياسي

في المحصلة، إن الصراع القائم في أوكرانيا هو صراع جيوسياسي بامتياز، وأوكرانيا ـ على عكس ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما ـ هي جزء من رقعة الشطرنج للحرب الباردة، تتنافس فيها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. إن المواجهة الروسية الأميركية ستستمر على أراضي الغير بسبب وجود «ملك» كل منهما في مكان آمن واستحالة الحسم لأي لاعب بحركة «كش مات». يشهد العالم اليوم نزاعات متعددة أدخلتنا في مرحلة العالم الممزق وغير القابل للحكم، وذلك بسبب التغيير الذي يشهده النظام العالمي في إطار تحديد موازين القوى العالمية. إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال، من القادم في لعبة الشطرنج الدولية؟ من المؤكد، أن المواجهة ستتبلور أكثر عبر سوريا، مصر، لبنان، إسرائيل، فلسطين، إيران، أفريقيا وفنزويلا، وتبقى الديموقراطية وحقوق الإنسان من أهم الذرائع، ويبقى النفط، الغاز، المياه وإعادة الإعمار من أهم الأسباب وراء رسم حدود النفوذ الدولي.




بوتين يطلب من الجيش الجهوزية

كلّف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس، وزارة الدفاع في البلاد إجراء اختبار متكامل لجاهزية القوات المسلحة في الدائرتين العسكريتين الغربية والمركزية، بالإضافة إلى عدد من أصناف القوات. وكشف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أنه أعلن أمس، تنفيذاً لأمر الرئيس، استنفاراً مفاجئاً لقوات الدائرة الغربية والتشكيلات والقطع العسكرية المتمركزة على أراضيها، وكذلك قيادة الدفاع الجوي ــ الفضائي، وقوات الإنزال الجوية، وطيران النقل العسكري والبعيد المدى. وأكد شويغو أن هذه المناورات ليس لها أي علاقة بالأوضاع في أوكرانيا، قائلاً: «على العموم ليس لها علاقة بأي شكل، فنحن لا نربط هذه الأشياء بأي شكل من الأشكال».
(الأخبار)