إسطنبول | يبدو أن واشنطن لا تزال بحاجة إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، لحسابات إقليمية، في مقدمتها تلك التي لها علاقة بسوريا والعراق وإيران والشرق الأوسط عموماً. ففي هذا السياق، التقى نائب وزير الخارجية الأميركي، وليم بيرنز، أمس في أنقرة مستشار وزارة الخارجية التركية فريدون سينيرلي، في إطار التعاون السياسي بين البلدين حول قضايا المنطقة، وعلى رأسها الأزمة السورية، عملية السلام في جزيرة قبرص ومكافحة الإرهاب، بحسب بيان الخارجية التركية.
لقد نجح أردوغان منذ انفجار قضايا الفساد في ١٧ كانون الأول الماضي في إجراء تعديلات وتغييرات عاجلة شملت ٤ من الوزراء المتهمين بالفساد وتعيين آخرين موثوق بهم تماماً. كذلك نجح عبر وزيري العدل والداخلية الجديدين في عزل وإقصاء ونقل ما لا يقل عن ٧ آلاف من مديري الأمن والفروع الأمنية والضباط الأمنيين، الذين قال عنهم إنهم جزء من المؤامرة التي تستهدفه والحكومة، وخطط لها الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في أميركا.
ونقل رئيس الوزراء التركي العديد من وكلاء النيابة والقضاة المسؤولين عن عمليات التحقيق في قضايا الفساد، بينما عيّن البدائل التي ساعدته على التخلص من القضايا المذكورة، بعد أن أصدر قانوناً سريعاً يمنع فيه على وكلاء النيابة والمسؤولين الأمنيين القيام بأي تحقيق قضائي قبل استئذان رؤسائهم، وهو ما يعني في نهاية المطاف أردوغان شخصياً.
وجاءت المفاجأة الأهم والأخطر بقرار أردوغان بإجراء تعديلات عاجلة على قانون المجلس الأعلى للقضاء، بحيث أصبحت جميع أجهزة القضاء والعاملين فيها تحت إمرة وزير العدل ورحمته، الذي يتلقى تعليماته مباشرة من رئيس الوزراء.
وجاء قانون الإنترنت الأخير ليضع النقاط على الحروف في تحديد ملامح أيديولوجية أردوغان التي قال عنها قادة حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية إنها لا تختلف أبداً عن آيديولوجية هتلر وموسوليني وستالين وصدام. فقد حمل القانون في طياته كل ما تعنيه الرقابة المطلقة على حرية التعبير عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، حيث سيتسنى للقضاء بعد الآن إغلاق أي موقع للإنترنت وحجبه بأي حجة بسيطة مع ملاحقة ومحاسبة قضائية صارمة. وجاء هذا القانون بعد أن تناقلت شبكات التواصل الاجتماعي تسجيلات مصورة وصوتية لمكالمات ولقاءات بين رئيس الوزراء ونجله بلال مع رجال أعمال ومسؤولي وسائل الإعلام وغيره يُصدر إليهم تعليماته في ما يتعلق بقضايا فساد جديدة. قضايا أحرجت أردوغان بنحو خطير وتصدى لها جميعاً من خلال حملة علاقات عامة ناجحة لإقناع أتباعه وأنصاره بأنه وأولاده أبرياء، وأن كل ما يُقال عنه وأولاده وعائلته وحكومته ليس إلا في إطار «مؤامرة كبيرة من تخطيط وتنفيذ فتح الله غولن أداة القوى الإمبريالية والصهيونية»، على حد قوله.
ويراهن الكثيرون على نتائج كلام أردوغان هذا ومدى تأثيره في الناخب التركي الذي سيتوجه إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية العامة، وهو تحت تأثير ما تعيشه البلاد من كلام عن الفساد بكافة أشكاله السياسية والمالية والإعلامية. وتتوقع العديد من استطلاعات الرأي أن نسبة تراوح ما بين ٥ و١٥% من المؤيدين لأردوغان في الانتخابات السابقة سيتخلون عنه، وهو ما سينعكس إن تحقق بنحو خطير على مجمل حسابات الزعيم الإسلامي، ليس فقط في ما يخص البلديات، بل انتخابات رئاسة الجمهورية التي ستُجرى في تموز المقبل، والتي سبق له إن قال إنه سيرشّح نفسه لهذا المنصب.
دفعت كل هذه الحسابات الصعبة والمعقدة رئيس الوزراء التركي إلى إلقاء الخطوة، ربما الأخيرة، في مسلسل سياسات التعسف والاستبداد والإرهاب، على حد قول قيادات المعارضة.
فقد أصدر أردوغان قانوناً جديداً يحدد من خلاله مهمات جهاز الاستخبارات الوطنية (MİT) وصلاحياته وأسلوب عمله، وقد منحه صلاحيات مطلقة بلا حدود أقلقت الجميع.
ومنع القانون الجديد أي ملاحقة قضائية بحق أيٍّ من عناصر الاستخبارات إلا بإذن من الحكومة مهما فعلوا أو قاموا به من عمل سري داخل تركيا وخارجها، وهو ما عدّه قادة المعارضة محاولة من الرجل لحماية جهاز الاستخبارات وأعماله السرية الخطيرة في سوريا.
كذلك منع القانون نشر أي خبر عن فعاليات الجهاز ومعاقبة من يفعل ذلك عبر الصحف والتلفزيونات ومواقع الإنترنت بالسجن لفترات تصل إلى ٦ سنوات تطاول كاتب الخبر ورئيس التحرير وصاحب وسيلة الإعلام.
ومنح القانون الاستخبارات صلاحيات بلا حدود في جميع المجالات وعلى كافة الصعد داخل تركيا وخارجها، من دون أي رقابة ومحاسبة وضد أي مواطن أو جهاز أو مؤسسة، بل وشركة، تركية كانت أو أجنبية.
هذا سيجعل أردوغان عبر قانون الإنترنت والقضاء والاستخبارات الحاكم المطلق، أو كما يسميه الإعلام وقادة المعارضة، السلطان العثماني الجديد، وخاصة بعد أن سيطر خلال السنوات الماضية من حكم حزبه «العدالة والتنمية» على القصر الجمهوري والبرلمان والحكومة والجيش والأمن والمجلس الأعلى للتعليم العالي والمجلس الأعلى للإعلام الذي يفرض على كل التلفزيونات المعارضة غرامات مالية كبيرة جداً، بحجج ومبررات غريبة لا يشملها أي قانون وتتناقض مع أبسط معايير الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير.
ويبدو أن الصراع بين الداعية الإسلامي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن وأردوغان سيستمر بشكل أو بآخر على الأقل حتى الانتخابات البلدية التي إن خسر فيها الأخير فسيكون حينها للجميع في الداخل والخارج خاصة واشنطن حديث آخر عن مستقبل «العدالة والتنمية» وزعيمه.
إلى ذلك، أفادت الصحف الحكومية أمس بأن نحو 7 آلاف شخص أُخضِعوا للتنصت منذ ثلاث سنوات في تركيا، بمن فيهم رئيس الوزراء ورئيس جهاز الاستخبارات وعدة صحافيين.
وأفادت صحيفتا «ييني صفاك» (الفجر الجديد) و«ستار» بأن الهواتف النقالة لهذه الشخصيات أُخضِعَت للتنصت بناءً على أمر من الشرطة أو القضاء القريبين من جمعية غولن.