على عكس اتفاق التسوية الموقّع، تسارعت الأحداث في أوكرانيا على نحو دراماتيكي بدا الخاسر الوحيد فيه الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، في وقت تسلّمت فيه المعارضة بشكل كلي دفة الأمور في العاصمة كييف عبر سيطرتها على البرلمان ونقل صلاحيات الرئيس إلى رئيس البرلمان الجديد، نائب رئيس كتلة حزب «الوطن» المعارض ألكسندر تورتشينوف، والعودة إلى دستور 2004 من دون توقيع الرئيس.
في رأي الخبير في الشأن الروسي، خالد العزي، أن الخطوات التي قامت بها المعارضة تُعتَبر «انقلاباً» لأن «القانون الأوكراني يعطي الرئيس حق التوقيع على القرارات، وطالما أنه لم تُجرَ انتخابات والرئيس لم يُقَل ولم تُعدّل القوانين، فإن القرار الأخير للبرلمان الذي لم يأخذ بتوقيع يانوكوفيتش يُعتبر غير دستوري».
العزي اعتبر أن المعارضة بعدما شعرت بالانتصار بعد توقيع الاتفاق التسوية، وضعت نفسها أمام أزمات مقبلة وابتعدت عن حل الأزمة الحقيقية في البلاد، مضيفاً إن «اتفاقية الشراكة ليست إلا واجهة للأزمة الحقيقية»، وموضحاً أن «الاتفاقية كان من المُفترض أن توقّع في 2004 في الفترة التي كان فيها أنصار الغرب في السلطة، لكنهم لم يوقّعوا، وهو ما لم يفعله أيضاً يانوكوفيتش».
ولفت العزي إلى أن «الأزمة الحقيقية هي في تفشي حالة الفساد في أجهزة الحكم، وحالة الإفلاس الموجودة وتردي الخدمات العامة. وفي وقت تعتبر فيه أوكرانيا من الدول الغنية، فإن أغلبية الشعب تعاني من حالة فقر مع وجود طبقة من الأغنياء في السلطة». من جهتها، المحللة السياسية الروسية إيلينا سوبونينا، أوضحت لـ«الأخبار» أن «الإدارة الروسية تنظر إلى ما جرى في أوكرانيا على أنه انتهاك للاتفاق الذي وُقّع بين الرئيس والمعارضة».
ولكن، هل يعتبر أن ما حصل في أوكرانيا فخ وقعت فيه الإدارة الروسية؟
برأي سوبونينا، فإن «الإدارة الروسية لم تخطئ، لأنها لا تنظر إلى الأمر على أنه صراع بينها وبين الغرب في كييف، بل تنظر إليه من زاوية تحقيق إصلاحات اقتصادية واجتماعية يريدها الشعب، وهو ما سعت إليه مع يانوكوفيتش لكنه فشل». العزي يخالف سوبونينا في نظرتها إلى الأمور، معتبراًَ أن موسكو «أخطأت في تقدير الموقف، وكان يمكنها منذ البداية أن تضغط على يانوكوفيتش في العمل على أن يصدر قرارات كالتي حصلت في الاتفاقية الموقعة مع المعارضة يوم الجمعة الماضي والتي كان باستطاعتها أن تُحجّم المعارضة». ولكن العزي مقتنع بأن روسيا اللاعب الأقوى في الانتخابات المبكرة لاعتبارات عدة؛ أهمها القدرة المالية لإدارة المعركة الانتخابية، في ظل عدم قدرة الولايات المتحدة وألمانيا على تقديم الدعم للمعارضة.
ويلفت العزي إلى أن «روسيا وضعت المعارضة أمام فخ عندما دعتها إلى تسلّم الحكم لأنها تدرك جيداً أنها غير قادرة على إيجاد الحلول للأوضاع الاقتصادية، في وقت قررت فيه موسكو سحب الدعم المالي الذي وعدت به كييف وربطته بانتخاب رئيس وزراء قوي، وبقرارها بإعادة البحث في اتفاقية النفط والغاز، التي تسلمهما روسيا لأوكرانيا بأسعار مخفوضة؛ وهو ما يضع المعارضة أمام أزمة استمرارها في السلطة المقبلة في ظل عجز مالي».
أما الورقة الأهم في أيدي الروس، بحسب العزي، فهي القوة الناخبة التي تملكها في الأقاليم الشرقية في مقابل حالة الانقسام والضعف التي تعانيها المعارضة.
في ظل هذه العوامل، بدا لافتاً السرعة في تنفيذ بند إخراج رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموتشينكو، من السجن وظهورها أمام أنصارها وإطلاقها التصريحات المحرضة على استمرار التحركات في وجه يانوكوفيتش. فهل تكون تيموتشينكو الشخصية التي تتقاطع عندها مصالح روسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا؟
رئيس تحرير موقع «أوكرانيا برس» محمد جولاق، يوضح في اتصال مع «الأخبار» وجود «تقبل أو ملامح تقبل روسي للأوضاع في أوكرانيا». ويستند بذلك إلى ما أطلقه رئيس لجنة مجلس الدوما الروسي لشؤون رابطة الدول المستقلة، ليونيد سلوتسكي، أمس بأن إقرار ترشيح تيموتشينكو لرئاسة حكومة ائتلافية في أوكرانيا سيساعد على تحقيق الاستقرار في البلاد وأن «الأميرة البرتقالية» كما يلقبونها، قد تكون مرشحة قوية لانتخابات الرئاسة، وهو ما يعتبره جولاق أنه مؤشر صريح من قبل روسيا على لسان مسؤول رفيع بالقبول بتيموتشينكو. ويضيف إن تيموتشينكو ليست شخصية عدائية لروسيا في التركيبة السياسية الأوكرانية، بل شخصية مقربة من موسكو؛ فالأخيرة وقفت إلى جانبها بعد صدور الحكم بسجنها ورفضته حينها، كما أنها طالبت مراراً يانوكوفيتش بإطلاق سراحها.
كذلك دافعت روسيا عنها في ما يتعلق بقضايا اتفاقية الغاز الموقعة في 2009 وأسقطت عنها تهم التهرب الضريبي التي بلغت قيمتها 1.5 مليار دولار.
جولاق ترك أمر تركيبة المشهد في السلطة المقبلة رهن الجواب عن سؤال «من سيكون وأين سيكون؟»، مشيراً إلى أن الروس والغرب يعملون الآن على توافق لتركيبة الإدارة السياسية المقبلة بشكل يرضي جميع الأطراف. ويوضح «أن المهم بالنسبة لروسيا هو وجود شخصية قوية وموالية لموسكو، على عكس يانوكوفيتش الضعيف الذي خدعها، فيما تضع موسكو اعتراضاً «فيتو» على زعيم حزب الحرية القومي أوليغ تياغنيبوك، الذي يدعم الراديكاليين والفاشيين ويحارب اللغة الروسية ويحرّض على روسيا.
في الوقت نفسه، قد لا تعترض روسيا على ترشح الملاكم السابق زعيم حزب أودار «الضربة» فيتالي كليتشكو، الذي يلقى دعماً أوروبياً وأميركياً للرئاسة، في مقابل وجود تيموتشينكو في رئاسة الحكومة».
العزي من جهته، يرى أن تيموتشينكو لاعبة أساسية في المعركة المقبلة بعدما تحولت إلى زعيمة روحية للشعب والمعارضة، لذلك ستكون شخصية تتقاطع عندها موسكو وواشنطن والاتحاد الأوروبي. وبحسب العزي فإن «الأميرة» الخارجة من السجن حديثاً ستكون أمام تحديين رئيسيين:
«إما الاتحاد مع روسيا وتكون جزءاً من الاتحاد الأوراسي، وإما أن تكون مع الاتحاد الأوروبي وتعرّض نفسها لخطر انقطاع الدعم الروسي عنها، وخاصة الغاز المادة الأساسية التي يعتمد عليها الأوكران».
كما يلفت العزي إلى أن روسيا نجحت في أن تبقي رئيس الوزراء المستقيل ميكولاي أزواروف، رجلها الأول في كييف، خارج الصراع الأخير عبر الطلب منه الاستقالة المبكرة، وبذلك حضّرته لأن يكون رجل الظل القوي القادر على إدارة البلاد، في ظل شبه اقتناع لدى الدبلوماسية الروسية بعدم قدرة المعارضة على معالجة الأزمات الاقتصادية، وبالتالي الفشل في الحكم.
بالتزامن مع التفكير في كيفية إدارة المرحلة المقبلة، بدا لافتاً تشديد روسيا وألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على ضرورة المحافظة على وحدة البلاد.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وميركل، شددا على أن استقرار أوكرانيا «يصب في مصلحتهما المشتركة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي». كما طلبت ميركل في اتصال مع تيموتشينكو «الالتزام بالعمل لمصلحة وحدة البلد والتحدث أيضاً مع الأشخاص في شرق البلاد». المحللة الروسية إيلينا سوبونينا، أوضحت أن «موسكو مستعدة لأن تدعم حكومة جديدة إذا كانت حكومة موحدة، وليس لها مصلحة في تقسيم أوكرانيا بين شرق وغرب».
العزي من جهته، شدد على أن «الغربيين يكونون أغبياء إذا ذهبوا بعيداً في الصراع في أوكرانيا وإذا حاولوا أن يتجهوا نحو الانقسام، لأن الأمور ستتحول حينها إلى حرب أهلية ويصبح الوضع كوضع البوسنة. والأهم من كل ذلك أن أوكرانيا لا يمكنها أن تعيش من دون أمها الأساس مملكة «كيسك روس» والتي كانت عاصمتها حينها كييف وليست موسكو».
ويضيف إن «الأزمة في أوكرانيا لن تنتهي بالسرعة المتوقعة، وقد دخلت في حيز جديد من الصراع قد يهددها مستقبلاً بالانقسام، في ظل الصراع التاريخي بين المقاطعات الشرقية الموالية لروسيا والمقاطعات الغربية الموالية لأوروبا، فكما هو معلوم الشرق هو الأغنى والمنطقة التي يقوم عليها الاقتصاد الأوكراني، وبالتالي لا يمكنهم أبداً أن يقبلوا بأن تحكمهم المناطق الغربية الفقيرة». لذلك يشدد على ضرورة أن تعمل الدول الأساسية في الأزمة على حل الموضوع عقلانياً لصالح وحدة الدولة الأوكرانية، من دون النظر إلى مصالح كل دولة على حدة.