الخرطوم | خلف بوابة حديثة وقفت وحيدة صامدة بعدما سقطت عنها جميع جدران المنزل الأربعة، جلس إسحق آدم وجيرانه الثلاثة ليتشاركوا الطعام، مثلما في خيمة واحدة يتشاركونها منذ أربعة أشهر، بعدما جرفت السيول منازلهم. في قرية صغيرة تقع شرقي مدينة الفكي هاشم، في ولاية الخرطوم شمالي العاصمة، جلسوا متحلّقين حول صحن طعام وحيد مكوّن من عصيدة الذرة. رغم بساطة الزاد، ألحّ صاحب المنزل على مشاركتهم الطعام أثناء مناداته لصغاره الثلاثة الذين كانوا يركضون في الشارع حفاة خلف إطار سيارة قديم.

بدت جميع المنازل متشابهة في تلك القرية التي تقع على بعد ثلاثين كيلومتراً شمالي العاصمة الخرطوم، والتابعة لولاية الخرطوم، إذ غلبت على تكوينها عيدان القش يعلوها «مشمّع» صنع من البلاستيك، لعلّه يقي من حرارة الشمس.
وقفت عائشة، المرأة السبعينية، بجسدها النحيل المُنهك، بالقرب من كومة من الطين، قائلة لـ«الأخبار»: «توفي ابني منذ شهرين ولم يعد لي غير هذه الغرفة»، وأشارت الى غرفة وحيدة موجودة أمامها مباشرة.
لم تكن عائشة وحدها التي ذهبت الى ذلك المكان المرتفع الذي لا يبعد كثيراً عن قريتهم، على الناحية الشمالية الشرقية، حيث تجمّع هناك كل سكان القرية البالغ عددهم نحو مئتي شخص. هناك تسمّر الجميع وقتذاك يحدّقون إلى منازلهم التي أخذت تتداعى وتنهار الواحد تلو الآخر.
كانت حواء منهمكة في تنظيف ما جمعته الرياح من أوراق شجر خارج الخيمة المنصوبة عند منتصف الدار. تقول: «خرجنا بأنفسنا فقط، تركنا كل شيء خلفنا». إلى تلك التلة المرتفعة عانت حواء حتى تصل اليها مع أطفالها الخمسة الذين يكبرهم عبدالله (12 عاماً) ويصغرهم أيمن (7 سنوات).

مأساة الطبيعة

أضافت تلك المأساة، التي خلّفتها الطبيعة، مشقّة جديدة لحياة المرأة التي زادت سنوات عمرها عن العقد الرابع بقليل. فقد باتت حواء تعمل في إزالة الحشائش من حقول الذرة التي تبعد قرابة ثلاثة كيلومترات عن قريتها، لتتمكن من جلب عشاء لصغارها الذين أصرّت على مواصلة تعليمهم، رغم أن أقرب مدرسة تبعد أكثر من أربعة كيلومترات يقطعها الصغير أيمن مشياً على قدميه يومياً، لأن «التعليم وحده هو ما سينفعهم في المستقبل»، على حدّ تعبيرها.
على بعد بضعة أمتار من الشارع الرئيسي الذي يربط قرى ريف بحري الشمالي بالعاصمة الخرطوم، تبدو القرية للناظر إليها كأنها بيوت مؤقتة، لكن تاريخها يعود إلى أكثر من أربعين عاماً، بحسب سكانها الذين لم يغادروها طوال تلك الفترة، رغم دخولهم في صراعات متكررة مع أهالي منطقة «الفكي هاشم» المجاورة، حول ملكية الأرض التي يعيشون عليها، أدت الى مقتل أحد أبناء القرية قبل عامين.
يعمل معظم السكان في الزراعة والأعمال الحرة ذات العائد البسيط. وبالرغم من قرب القرية من الشارع الرئيسي، تبدو المنطقة كأنها تعيش خارج التاريخ، إذ لا وجود فيها للخدمات الضرورية، كالماء والكهرباء، ولا توجد أي مدرسة، حيث يضطر الأطفال الى السير عدة كيلومترات للالتحاق بأقرب مدرسة، في حين لا يزورهم أي مسؤول، حتى عند وقوع كارثة السيل.
كانت رائحة روث الأبقار تعبق في المكان، فهناك عدد من سكان القرية يبيعون روث الأبقار والمواشي للمزارعين كسماد للتربة، حيث تمتلك كل أسرة أبقاراً. معظم السكان يعملون كعمال يوميين في المزارع المنتشرة في المنطقة، كما يهتمون بتربية المواشي، ويجلبون معهم مياه الشرب من القنوات التي تستخدم في الري عبر براميل تجرّها الحمير. أما وجبتهم الرئيسية فهي عصيدة الذرة مع حساء «الويكة» الذي يُصنَع من خضر البامية المجفف.

الأبقار غرقت أيضاً

لقد فقدت أكثر من عشرين أسرة أبقارها غرقاً في مياه السيول، وهو ما دعا إبراهيم الى إرسال مناشدة للحكومة كي تقوم بتعويضهم عن فقد مواشيهم، قالها بصوت خافت ثم أشار الى الجهة التي يأتي منها السيل، مضيفاً: «نتمنى من السلطات إنشاء جسر يقينا من مياه السيول التي لن تغيّر مجراها».
الى ناحية الشرق من تلك القرية، وعلى بعد خمسة كيلومترات، هدمت السيول قرية أخرى معظم قاطنيها ينتمون الى قبيلة واحدة عرفت القرية باسمها (الحسانية)، حيث يقطن عبدالله سعد (50 عاماً) وعشيرته. بدت القرية عبارة عن كومة من الطين والقش. يروي سعد، ذو الملامح البدوية، بعضاً من معاناتهم أثناء فصل الشتاء الذي كان قارساً هذا العام، يقول: «ندثّر الصغار بما منحتنا إياه الحكومة من أغطية، أما نحن فنلتحف بما بقي لدينا من قطع قماش».
تتملك الرجل حالة من الغضب وهو يحكي عن معاناتهم المستمرة، حيث تقطع النساء والأطفال مسافات طويلة يومياً لجلب مياه الشرب، ثم قام بجرّ الحبل المتدلي من عنق حماره يأمره بمواصلة السير، مردداً بصوت غاضب: «نحن لا نرجو شيئاً من الحكومة». لكن محمد عبدالرحمن، الأربعيني الذي يعمل موظفاً في إحدى الوزارت، تحدث إلى «الأخبار» وهو ينظر باستياء من خلف نظارته، مستنكراً موقف السلطات الحكومية وإهمالها لسكان القرية بعد كارثة السيل الأخيرة.
يقول محمد بغضب: «عن أي تعويضات تتحدثون؟ فالحكومة لم تتعامل معنا كبشر، واكتفت فقط بتوزيع بعض الخيام القليلة، حيث تتشارك كل ثلاث أسر وأحياناً أربع خيمة واحدة»، أما التعويضات المادية فلا وجود لها. وعلى الرغم من المساعدات الكبيرة التي تلقّتها الحكومة من الدول والمنظمات الإنسانية للمتأثرين بالسيول والأمطار في أيلول الماضي، لم تصل تلك المساعدات اليهم، واكتفت السلطات بتوزيع بعض الخيام والأغطية وقليل من المواد الغذائية في الأيام الاولى للكارثة.

منازل مؤقتة

وفيما بقي لموسم الأمطار أربعة أشهر فقط، لا تزال مئات الأسر تعيش في منازل مؤقته، إذ يجد السكان صعوبة في إعادة بناء ما تهدّم، خاصة أن معظهم من ذوي الدخل المحدود. لعل كلام إسحق وهو ينظر بحسرة الى آثار بيته خير معبّر عن حجم الوجع الذي يعيشه ضحايا السيول، حيث يقول: «انظروا الى هذه البوابة لتعلموا قيمة المنزل الذي فقدته».




مشرّدو الحروب... أيضاً


حذّرت منظمة «أطباء بلا حدود» غير الحكومية أمس من أن الوضع الصحي في أكبر مخيم للنازحين في عاصمة دولة جنوب السودان، جوبا، حيث يتكدس 27 ألف شخص نزحوا من منازلهم بسبب القتال، يشكل «قنبلة موقوتة». وتوسع مخيم تومبينغ داخل قاعدة للأمم المتحدة قريبة من المطار، حيث وصل آلاف المدنيين المرعوبين الذين يبحثون عن ملجأ لهم عندما اندلعت المعارك في 15 كانون الأول في جوبا بين فصائل متحاربة في الجيش.
وأعلن منسق الطوارئ في «أطباء بلا حدود»، في جوبا، فوربس شارب، في بيان، أن «عدد الذين يموتون يومياً يتخطى عتبة الطوارئ».
وأضاف «لا يوجد في الواقع سوى طريقة واحدة لوصف مخيم تومبينغ: إنه مخيم مكتظ بشكل لا يمكن تصوره»، قائلاً «من الواضح أن هذا المخيم لم يشيد على الإطلاق ليكون مخيماً للنازحين ولا لاستقبال هذا العدد من الناس. فهو يمكنه كحد أقصى استيعاب ما بين أربعة الى خمسة آلاف شخص، وبات الآن يعيش فيه 70 ألفاً، وسط درجة حرارة مرتفعة للغاية». وحذّر شارب من أنه «من منظور الصحة العامة، فإن مثل هذا التجمع يشكل قنبلة موقوتة»، لأن الاكتظاظ المزمن والظروف الصحية غير الملائمة تشكل بيئة جيدة لانتشار الامراض المعدية بسرعة.
(أ ف ب)