بالرغم من مئات السيارات المفخخة التي انفجرت في مختلف أنحاء العراق، وآلاف الشهداء والجرحى الذين كانوا يسقطون في كل شهر، خلال الفترة الأخيرة، لم تتبنّ الحكومة العراقية توجهاً هجومياً من النوع الذي تنفذه هذه الأيام في الأنبار. ليس لأن الأمر لم يكن ضمن جدول أولوياتها، ويمثل مطلباً طاغطاً على الصعيد الشعبي والسياسي الداخلي، بل لارتباطه على نحو مباشر بهامش الحكومة في المبادرة العملانية ربطاً بالعديد من الاعتبارات السياسية الإقليمية والدولية، فضلاً عن حاجتها إلى العديد من عناصر القدرة المطلوب توافرها.
وبناءً عليه، ليس من الصعوبة التكهن بأن العملية العسكرية التي بادر إليها المالكي ما كانت لتجري لولا التقارب الأميركي الإيراني الأخير، رغم اقتصاره على الملف النووي، ولولا تبدل المقاربة الأميركية، تبعاً لذلك، في الرهان على المنظمات المتفرعة عن «القاعدة» في مواجهة محور إيران سوريا، ومعه العراق، وخاصة بعد فشل كل محاولات إسقاط النظام في سوريا.
هذا الفشل وضع الولايات المتحدة، أمام واقع مركب في سوريا: فمن جهة حافظ نظام الرئيس بشار الأسد على قدر من القوة العسكرية التي تبقيه مصدر قوة لمحور المقاومة، وبالتالي فشلت محاولة إضعاف المقاومة وإيران بالمستوى الذي يسمح باحتوائهما. ومن جهة أخرى، تحولت الكثير من المناطق التي انحسر عنها النظام، إلى بؤر لهذه المنظمات التي لو تكرست فسوف تمثل خطرا على المصالح الأميركية والغربية، في المنطقة والعالم، في استنساخ للتجربة الأفغانية الطالبانية.
هذا الواقع، مقرونا، بتطورات تتصل بالملف النووي الإيراني، الذي وإن كان مضمونه موضعيا ومحدوداً، إلا أن ظلاله التي أرخت نفسها على بقية الساحات، ومنها العراق، مثلت أرضية أسهمت في بلورة رؤية أميركية مختلفة إزاء كيفية التعامل مع «القاعدة» بفرعيها السوري والعراقي، باعتبار أنهما يتغذيان من بعضهما بعضاً.
يتضح، بناء على ما تقدم، أن البعد المحلي للهجوم الذي تشنّه القوات العراقية ضد الفصائل الإرهابية في الأنبار لا يمكن فصله عن المناخ الإقليمي والدولي الذي نشأ بعد الانعطافة الأميركية باتجاه إيران. وإذا كان من الطبيعي توقع أن تترك معركة الأنبار، ونتائجها، أثراً مهماً في وضع التنظيمات الرديفة للقاعدة على الساحة السورية، فإن السؤال الذي يبقى مفتوحاً هو حول امتداد الضوء الأخضر الأميركي في محاربة هذه التنظيمات باتجاه بلاد الشام. سؤالٌ لا يبدو أن ما يحصل في العراق يمثل، حتى اللحظة، منطلقاً للإجابة عنه، وخصوصاً أن واشنطن ما زالت تحتاج، في هذه المرحلة، إلى المحافظة على العديد من الأوراق الإقليمية، ومن ضمنها المعارضة السورية المسلحة، في وجه محور المقاومة، الذي يزال الكباش معه عنوان سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.
وبحسب مصادر متابعة للوضع الميداني، فان اجتماعات عدة عقدت بين القيادة العراقية وجهات من بينها الولايات المتحدة، التي قدمت معلومات استخبارية مهمة، وكذلك الاردن، الذي «تعهد» عدم تقديم اي عون للمجموعات المسلحة، وعرض في اجتماع امني عقد في عمان مع العراقيين، أن يقوم بوساطة مع عشائر الانبار ان ارادات الحكومة ذلك.
وتكشف المصادر ان التجديد للاتفاقية الامنية الاميركية – العراقية كان شرطه تقديم كل الدعم في معركة قاسية ضد مجموعات القاعدة في غرب العراق، لكن المصادر تشير الى ان الاميركيين رفضوا ان تتمدد العمليات العسكرية العراقية صوب الحدود مع سوريا، او الدخول الى الاراضي السورية او حتى قصف اهداف لهذه المجموعات داخل سوريا. علما ان السلطات السورية قدمت العون حول تجمعات ومعسكرات للتكفيريين، وهي كانت مستفيدة بقوة من العملية العسكرية للجيش العراقي، التي استهدفت ممرات للالاف من المقاتلين الاجانب الذين يقودون الاعمال الارهابية في سوريا تحت رايتي «داعش» و«جبهة النصرة».

العشائر تحسم

ميدانيا، استعادت الحكومة العراقية السيطرة على منطقتي الفلوجة والرمادي بعد معارك قاسية ضد مجموعات «القاعدة» بمشاركة من ابناء الانبار. النتيجة ما كانت ممكنة لولا اشتراك عشائر الأنبار مع الجيش في الميدان. وهي خطوة جاءت بعد تفاهم بين زعمائها وحكومة نوري المالكي مساء أول من أمس. المؤشرات كلها تتحدث عن ساعات لحسم المعارك في هاتين المدينتين على نحو نهائي، قبل ملاحقة بقية مجموعات «القاعدة» في صحاري الأنبار، حيث لا يزالون يسيطرون على مدينتي القائم وراوة، وحيث التقديرات تشير الى صعوبات تواجه المهمة هناك بسبب تغلغل هؤلاء في صفوف السكان.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تهب فيها العشائر نصرة للمركز. سبق أن حصل ذلك في أواخر 2007 وبداية 2008. وقتها تولت العشائر «تحرير» منطقة الأنبار من جميع عناصر «القاعدة» تحت لواء ما عرف يومها بـ«الصحوات»، وهي ميليشيات أنشئت برعاية أميركية كجزء من تسوية استهدفت فتح الطريق أمام أهل المناطق الغربية للمشاركة في العملية السياسية. وقتها وُضعت العشائر بين سندان التكفيريين، الذين أعلنوا في تلك المناطق «دولة العراق الإسلامية» مع كل ما رافق ذلك من ممارسات ارهابية غير مسبوقة في العراق، ومطرقة حكومة بغداد، فاختارت الأخيرة. تجربة نجحت في استئصال التكفيريين من المنطقة، لكنها أخفقت في دمج العشائر في النظام الجديد الذي سرعان ما أوقف رواتب معظم عناصر تلك الصحوات ولم يف بوعود إدخالهم في المؤسسات العسكرية كما وعد.
وكأن التاريخ يعيد نفسه. حالة الإحباط التي أصابت أهالي الأنبار (يتولى الاعلام الغربي والعربي تعريفهم بالعرب السنة) ما كان يمكن أن تبقى مكبوتة، ولا سيما بعد فشل «القائمة العراقية» في تأليف حكومة واستعادة السلطة المفقودة، برغم فوزها بالعدد الأكبر من مقاعد برلمان 2010. مطالب كثيرة رفعت ووعود أكثر أعطيت لمن ارتضى من زعماء تلك المنطقة التعاون مع حكومة المالكي، من دون أن تلبى. إلى أن جاءت الأحداث السورية، وما رافقها من تأزم إقليمي تفجر تكثيفاً للاعمال الارهابية في بغداد وغيرها من مدن الوسط والجنوب، واعتصامات في المناطق الغربية.
اضطرابات بلاد الشام أعادت التكفيريين إلى المنطقة، مقاتلين وسلاحا وأموالا، والاعتصامات أعادتهم إلى الشوارع ووسط الأهالي. الترجيح الغالب بأن العشائر أرادت، على ما يفيد مطلعون، استخدام هؤلاء المقاتلين للضغط على المركز من أجل تحقيق المطالب. أرادتهم عصا تضرب بها خصومها السياسيين. اتجاه عززته التعبئة الطائفية التي تشهدها البلاد بتحريض ورعاية اطراف خارجية تتقدمها السعودية، التي حاول الغرب الاستفادة منها في معركة اسقاط حكم بشار الاسد، لكن يبدو ان المشكلة الرئيسية تنطلق من كون العشائر غير قادرة على الانسجام مع نهج «القاعدة» فكرا وممارسة، ولا التنظيم قادر على التعايش مع بيئة من دون أن يسعى إلى الهيمنة عليها والتحكم في أبنائها. فانفجر الخلاف مجدداً. صحيح أن عشائر المنطقة تجهد لاستعادة نفوذها كما كان عليه أيام الرئيس الراحل صدام حسين، وهو طموح يصطدم بطريقة نوري المالكي في ادارة السلطة والحديث الدائم عن هيمنته على القرارات كافة، لكن حالما وجدت العشائر نفسها مضطرة إلى الاختيار بين المالكي و«القاعدة»، كان خيارها الطبيعي تفضيل الأول. وهو الذي جعلها تستدعي الجيش وقوات الشرطة لطرد التكفيريين من شوارعها. ولعل حالة الارتباك التي أصابت النواب المستقيلين الـ44 خير مؤشر. إلى جانب من يقفون: المؤسسة العسكرية أم التكفيريين؟

ماذا عن الدور السعودي؟

النفوذ السعودي بين اهل الانبار كبير جدا. وادواته الأموال المتدفقة من المملكة الوهابية الى غرب العراق، لكنها أموال ذهبت في معظمعها الى «المقاتلين الغرباء» عن المنطقة. استعراضهم العسكري في الرمادي والفلوجة قبل يومين خير شاهد. كل تلك المعدات العسكرية التي جابت الشوارع تدل على وجود تمويل غير عادي ويأتي من دول. واهل الانبار بعرفون ان من يمول يريد استخدام هذا السلاح اليوم في مكان اخر، والمقصود واضح: انها معركة سوريا.
تريد الرياض الأنبار عمقاً استراتيجياً لمعركتها في سوريا، وتريد من أبناء المنطقة الذهاب للقتال في بلاد الشام. وهو ما تبين انه مرفوض بقوة من قبل غالبية شيوخ العشائر. هؤلاء يرمون من كل تحركهم استعادة موقعهم في بغداد لا الموت على أسوار دمشق. الغلبة كانت لمصالحهم الخاصة. اقتنعوا على ما يبدو بأن السعودية تريد أن تقاتل الأسد إلى آخر قطرة من دماء أبنائهم.
أمير قبائل الدليم في الأنبار الشيخ علي الحاتم يعد استثناءً. فهو رأى أن «أقاويل المالكي حول وجود القاعدة في ساحة اعتصام الأنبار كاذبة». وشدد على أن «المالكي هو من اتخذ قرار الحرب، لكن قرار انهائها ليس بيده، إلا بعد أن نأخذ كافة حقوقنا المشروعة ويُطلق النائب المخطوف أحمد العلواني»، لكن حتى الحاتم أكد «أننا لن نسمح برفع أي راية غير راية العشائر تحت مسمى الجهاد وأية مسميات أخرى».
اللافت أيضاً كان في اجماع خطباء الجمعة أمس، سنة وشيعة على دعم العملية العسكرية في الأنبار. خطيب كربلاء أحمد الصافي أكد أن «مكافحة القوى الظلامية والإرهاب الذي لا يعرف إلا القتل، مهمة وطنية لا تختص بطائفة دون أخرى». وامام جمعة النجف صدر الدين القبانجي حذر من تسرب عناصر «داعش» إلى المحافظات المحيطة بصحراء الأنبار.
بدوره، حذر إمام وخطيب جامع الكيلاني محمود العيساوي، من أن العراق بات يقف على مفترق طرق يستدعي من الجميع وقفة جادة، وفيما دعا اهالي الأنبار إلى حماية ومساندة القوات الامنية، طالب عناصر الشرطة المتخلفين إلى الصمود والالتحاق بواجبهم.
خطيب صلاة الجمعة الموحدة في ساحة الاعتصام في سامراء الشيخ حسين غازي مثل استثناء بتأكيده أن «عشائر العراق من الجنوب إلى الشمال ترفض ما تقوم به الحكومة من زج للجيش لمقاتلة اخوانهم في الأنبار».




ساعات حرجة

بعد إعادة سيطرة القوات العراقية على مدينة الرمادي، ينتظر أن تُحسم في الساعات المقبلة المعركة في مدينة الفلوجة بعد انتهاء الاستعدادات للمعركة «الحاسمة».
وأعلن محافظ الأنبار احمد خلف الدليمي، في بيان أمس، أن «اعداداً كبيرة من ابناء العشائر أنهوا استعداداتهم لمساندة قوات الشرطة»، مشيراً إلى أن «الساعات القادمة ستشهد تحركنا للقضاء على المجموعات المسلحة»، فيما اعلن المستشار الاعلامي لجهاز مكافحة الارهاب سمير الشويلي أن القوات الامنية سيطرت على 75% من قضاء الفلوجة، لافتا الى ان الفرقة الذهبية تستعد لعملية عسكرية نوعية لطرد مسلحي «داعش» من القضاء. واضاف «نفذنا اليوم (الجمعة) سبع عمليات نوعية في قضاء الفلوجة تمكنا خلالها من قتل 15 قناصا من جنسيات عربية مختلفة، تلقوا تدريباتهم في افغانستان وسوريا»، مشيراً إلى أن «هناك تسابقاً بين قوات الجيش والشرطة والعشائر في مواجهة الجماعات المسلحة». بدورها، أعلنت قيادة عمليات الأنبار، أمس، أن القوات الأمنية قصفت تجمعاً لأكثر من 150 إرهابياً في منطقة عامرية الفلوجة وكبدتهم خسائر فادحة، فيما أشارت إلى رصد تعزيزات لعناصر تنظيم «داعش» في بعض مناطق محافظة الأنبار.
وذكرت مصادر في الشرطة ومستشفى الفلوجة إن ٣٢ شخصاً قتلوا وجرحوا بقصف استهدف أحياء متفرقة من المدينة.
وكان تنظيم «داعش» قد أعلن رسمياً أول من أمس مدينة الفلوجة «إمارة إسلامية» له بعد يومين على سيطرته التامة على جميع احيائها في أعقاب انسحاب الجيش منها.
وبعد سيطرة القوات العراقية على مدينة الرمادي، تجددت الاشتباكات بين مئات المسلحين الإسلاميين الذين يرتدون ملابس سوداء ويرفعون أعلام «القاعدة» ويستخدمون أسلحة آلية وشاحنات مزودة بمدافع مضادة للطائرا، ورجال العشائر في شوارع.
وقال شيخ عشيرة «لا مجال للسماح للقاعدة بالاحتفاظ بأي موطئ قدم لها في الأنبار»، مضيفاً إن «المعركة ضارية وليست سهلة نظراً لأنهم يختبئون في مناطق سكنية».
وقال شهود عيان إن مسلحين اسلاميين في الفلوجة استخدموا مكبرات الصوت بعد صلاة الجمعة ليدعوا المصلين لمساندتهم في صراعهم.
وأضافوا أن رجال العشائر لم يشتبكوا مع المسلحين في الفلوجة، لكنّ مسلحين ملثمين يسيطرون على أجزاء كبيرة من المدينة وأقاموا عدة نقاط تفتيش بها.
بدوره، اعلن رئيس مؤتمر صحوة العراق، الشيخ احمد ابو ريشة، أمس مقتل 62 من عناصر «القاعدة» بينهم امير التنظيم في الأنبار ابو عبد الرحمن البغدادي، غرب بغداد، خلال الاشتباكات. وأضاف ابو ريشة أن قوات العشائر والشرطة «استطاعت حتى الان تطهير قرابة 80 بالمئة من مدن الانبار وتواصل ملاحقة عناصر القاعدة من منطقة إلى اخرى».
(الأخبار، ا ف ب، رويترز، الأناضول)