خمسون نقطة من أصل مئة هي نتيجة تركيا بحسب مؤشر الفساد الذي تُعده منظمة الشفافية الدولية. غير أن الخبراء المعنيين بإصدار هذا التصنيف الشهير لعام 2013 لم يكونوا بالتأكيد على علم بصناديق الأحذية المليئة أموالاً وسخة ــ تحديداً 4.5 ملايين دولار ــ التي عثرت عليها الشرطة التركية في منزل مدير المؤسسة المالية التركية الشهيرة «هالكبانك».
هذه المؤسسة مرتبطة مباشرة بحكم حزب العدالة والتنمية الممتد منذ مطلع الألفية. والغارة التي شنتها الشرطة على مديرها هي جزء من حملة مواجهة حلقات الفساد التي يبدو أنها مرعية مباشرة من الحكم لدرجة أن وزيراً مهماً من الذين استقالوا أخيراً أشار صراحة إلى تورط رئيس الحكومة رجب طيب إردوغان نفسه في لعبة الفساد الدائرة في قطاعات عديدة، من العقارات إلى الإدارة المالية.
اختلفت طرق تكديس الأموال وإخفاءها بحسب شخصية المستفيد. فابن وزير الداخلية مثلاً، استخدم صناديق التخزين الصغيرة لحفظ المال.
الفضيحة كبيرة وإن كانت الممارسات المشبوهة متوقّعة في بلد مثل تركيا يقمع الإعلام والصحافيين، محليين كانوا أو أجانب. ولم يجد أمام هذه الفضيحة رئيس الحكومة رجب طيب إردوغان إلا الحبكة المؤامراتيّة. ردّه كان تماماً كما يُمكن توقّعه من متّهم يخشى على مصيره. الإجراءات المباشرة كانت إعادة هيكلة الحكومة، وإعادة تعيين قرابة 400 شرطي ومحقق وراء التحقيقات القائمة.
تصف السلطة ما يحدث بأنه مؤامرة لزعزعة استقرار البلاد السياسي والاقتصادي. توجّه أصابع الاتهام صوب «مجموعات دولية» و«التحالفات الظلامية» التي تريد تشويه سمعة البلاد. أما في الاتهام المباشر، فيتحدّث إردوغان عن تورّط الداعية النافذ فتح الله غولن ــ الذي كان في الأمس القريب حليفاً ــ وعن دوره من الولايات المتّحدة في تحريك المياه الراكدة في المجتمع التركي لدرجة وصفه بانه شخص لا يعرف الدين الإسلامي من أصله؛ إنه الاتهام بالهرطقة الفعلية.
«تتعاطى الحكومة مع الأزمة على أنها انقلاب يديره الحاسدون؛ وهذا (توصيف) تافه»، يجزم أندرو فينكل، صاحب كتاب «كل ما تحتاج إلى أن تعرفه عن تركيا»، في مقال نشره في صحيفة «نيويورك تايمز».
يقول إن «المعارضة التي يواجهها حزب العدالة والتنمية نشأت من عدم احترام الحزب حكم القانون واستهتاره بالمحاسبة. ولكن لا يُمكن الحزب التلطّي وراء نظريات المؤامرة».
تحتمي السلطات التركية بعقديتها الدينية لمواجهة العديد من الانتقادات التي توجّه إليها؛ تماماً كما يهوّل حراس الهياكل في أي منظومة تُغذّي جيوب قلّة، أكانت تُفيد آخرين أم لا، أكانت تُحقّق نتائج كمية مبهرة أم لا.
أبرز الدلائل عن تلك الممارسات هي سعي السلطات إلى كمّ الأفواه الإعلامية تحديداً التي تحاول الإضاءة على مختلف جوانب الحياة العامّة. فآلة الفساد نفسها التي تعمل جاهدة لإفادة قلّة تسجن الصحافيين وتضغط على الحناجر التي تنادي بالإصلاح وبأن البلاد لا يُمكنها المضي قدماً على طريق الإدارة الإسلامية.
هذا العام صنّفت منظمة «صحافيون بلاد حدود» تركيا في المرتبة 154 بين 179 بلداً بحسب مؤشر «حرية الصحافة»، لتتراجع ست مراتب مقارنة بالعام السابق. ولإلقاء الضوء فعلياً على قمع الحريات المتزايد في هذا البلد منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2003. يُشار إلى أن مرتبة تركيا كانت 115 ذلك العام.
توثّق المنظمة أوجه القمع العديدة بحق الصحافيين والناشطين الإعلاميين. هكذا تُصبح عناوين على شاكلة «العدائية تجاه الإعلام»، «مهاجمة الصحافيين»، «طرد الصحافيين الأجانب» و«سجن الصحافيين بخلفيات دينية» أخباراً عادية في المشهد الديموقراطي التركي.
واضطهاد الإعلام ليس فقط لإسكات الأصوات التي تثير قضايا الشرخ الذي يعززه العدالة والتنمية في المجتمع من خلال إجراءات تعسّفية مثل منع الإعلانات الخاصة بالمشروبات الكحولية، وكبح استخدامها في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تُعدّ نتاجاً ثقافياً تركياً يتخطى الحدود التركية ليغزو العالم (من الإجراءات الأخرى التي طمحت لها الحكومة فرض لباس محتشم وزينة محافظة على مضيفات الخطوط الجوية التركية)... هذا الاضطهاد يسير مع ازدياد معدلات الفساد في هذا البلد.
الاضطهاد يتعاظم أيضاً مع تعاظم أحلام استرجاع أمجاد السلطنة. أحلام أوصلت السلطة بسذاجة إلى حدّ تصميم مشروع لهدم الحديقة العامّة، «جيزي»، في اسطنبول لتصميم ثكنة عسكرية تمجّد الإرث العثماني (التحوّط السلطوي ذهب إلى حد التلويح بمنع تصوير الجزء الثالث من مسلسل «حريم السلطان» كونه لا يعكس موضوعياً حياة السلطان سليمان، بحسب تقويم السلطات).
ولكن رغم الدعاية السلطوية، تُخبر ورش البنى التحتية والمشاريع الإنتاجية الكثيرة المنتشرة على جانبي الخط السياحي السريع في وسط الأناضول الكثير من الحكاية. ليست فقط قصّة التنمية وتغذية الشرايين السياحية التي تؤمن للبلاد عملات صعبة حيوية، بل أيضاً قصّة مشاريع رجال الأعمال المقربين من إدارة حزب العدالة والتنمية، وكيف يزدهرون منذ أكثر من عقد.
خلال جولة في تلك المنطقة خلال الصيف الماضي، كان يُمكن تلمّس الفورة السياحية الاقتصادية التي أمنتها أجندة الحكومة الطموحة: أحد أبرز الأمثلة إلغاء التأشيرات السياحية مع لبنان ما عزّز دفق اللبنانيين ــ سياحاً وتجاراً ــ حيث قارب عددهم 145 ألف نسمة عام 2012، ما يُعكس نمواً بنسبة 220% خلال خمس سنوات فقط. عموماً، تحوّلت تركيا إلى قبلة سياحية لشعوب الشرق الأوسط وأوروبا ــ ويُمكن وصف الدفق البشري السياحي من ألمانيا وفرنسا أنه حجٌّ حقيقي ــ حيث نما عدد الاجانب المتدفقين إليها بنسبة 120% خلال الفترة نفسها.
ينبهر المراقب بمشاريع التنمية وتعوّض هالتها المدموجة مع جمال الطبيعة والتاريخ الطبيعة المتعجرفة غير المحنكة لشعب يُريد أن يكون سياحياً. ولكن ما تحرص عليه السلطات فعلاً هو أن يظهر من الأمور ما يُمكن كشفه فقط. «جميع المشاريع التي تُمنح هنا تفوح منها روائح المحسوبيّات في إطار التركيبة التي تُديرها الحكومة» يقول المرشد السياحي ــ الأستاذ الجامعي العلماني ــ المعادي لحكم إردوغان، خلال الرحلة في الأناضول.
الحديث عن المحسوبيّات وعن «رجال أعمال العدالة والتنمية» وعن الجوانب المخفية من اقتصاد يفوق حجمه 850 مليار دولار، يدور وإن همساً منذ فترة طويلة. هناك شكوك كثيرة حول قدرة الحزب الحاكم على المضي قدماً في إدارة شؤون 75 مليون نسمة يشكلون مجتمعاً له خصوصيّة على مختلف المستويات (تحديداً في مجالي الانقسام بين الشرق والغرب والصراع بين الإسلام والعلمانية).
صحيح أن السلطة في تركيا نظّمت آليات الاستفادة من مقدرات البلاد خلال العقد الماضي ونجحت في كثير من المحاور، غير أنّها في الوقت نفسه سمحت للفيروس السلطوي الشهير بالتغلغل في شرايين الاقتصاد والمجتمع: إنه الفساد، وهو نتاج حتمي لممارسات سلطوية تؤمن أن القمع هو وقود لإكمال مشوار الازدهار.
اليوم وفيما تترنّح الليرة التركية بعيداً عن توقّعات المصرف المركزي لآخر العام ــ وللدلالات النقدية أهمية كبيرة في البلاد نظراً لتاريخها مع الاضطرابات الاقتصادية ــ يبدو أن المستثمرين الأجانب يراجعون حساباتهم جدياً الآن لضمان أن غرق سفينة حزب العدالة والتنمية لن يسحبهم أيضاً. الآن يقوّمون علاقتهم مع الشركاء الأتراك لتحديد مستوى ارتباطهم بالفضائح التي تتكشّف.
في العام المقبل تشهد البلاد انتخابات رئاسية وفي عام 2015 انتخابات برلمانية. ويُفترض أن يُظهر هذان الاستحقاقان الديموقراطيان ما إذا كانت تركيا ستمضي كما هي اليوم أم أن تغيرات كبرى ستعصف بها. الجيش يُحيّد نفسه حتى الآن عن قضايا الفساد، وهو أساساً كان قد أبدى مرونة كبيرة مع تخلّيه والنخب العلمانية عن التعصّب للقيم الأتاتوركية أمام مدّ الإسلام السياسي، ولكن أحداً لا يُمكنه أن يجزم ماذا يُخبئ الجنرالات.




الجيش يشكو الحكومة

تقدم الجيش التركي بشكوى ضد إدانة مئات الضباط في محاكمتين بتهمة التآمر ضد الحكومة الإسلامية المحافظة، التي تهزّها قضية فساد غير مسبوقة. وتقدّمت المؤسسة العسكرية رسمياً في 27 كانون الأول الماضي بهذه الشكوى أمام مكتب مدعي انقرة، بهدف الحصول على محاكمة جديدة، حسبما اوضحت شبكة تلفزيون «ان تي في».
ونتيجة الازمة السياسية هبطت الليرة التركية أمس الى أدنى مستوياتها التاريخية بالنسبة إلى الدولار، فانخفضت الى 2,1778 ليرة للدولار على خلفية الفضيحة السياسية المالية التي تهز حكومة رئيس الوزراء المحافظة.
كذلك تراجعت الليرة في مواجهة اليورو الى 2,9879 ليرة لليورو الواحد، بفارق ضئيل عن العتبة التاريخية البالغة 3 ليرات لليورو، فيما تراجع المؤشر الرئيسي لبورصة اسطنبول 1,91% الى 66503,69 نقطة في منتصف النهار. وسعى نائب رئيس الوزراء المكلف الاقتصاد علي باباجان، مرة جديدة أمس لطمأنة الأسواق، مؤكدا ان هذه الازمة عابرة.
(أ ف ب، الأناضول)