يبدو أن خطط الإمارات لإحكام السيطرة على موانئ القرن الأفريقي لن تسير وفق ما يشتهي حكام هذه الدولة، التي تتطلع إلى توسيع مساحة نفوذها ما بين اليمن وشرق أفريقيا، على البحرين الأحمر والعربي. هذا ما يوحي به النزاع المتجدد بين السلطات الجيبوتية، وشركة «موانئ دبي العالمية»، التي تَعزّز، أخيراً، حضورها في تلك المنطقة على نحو غير مسبوق، عبر سيطرتها على ميناء بربرة في «أرض الصومال» (جمهورية معلنة من جانب واحد)، بعد ضمها ميناء عصب في إريتريا إلى مظلتها.
قبل يومين، أعلن الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر جوليه، «إنهاء عقد الامتياز الممنوح لموانئ دبي العالمية» لتشغيل محطة «دوراليه» للحاويات، «من جانب واحد وبأثر فوري». قرار أثار سخط الشركة التي سارعت إلى توصيفه بـ«الاستيلاء غير القانوني»، مُعلِنةً شروعها في إجراءات تحكيم أمام محكمة لندن للتحكيم الدولي، التي سبق لها أن نظرت في دعاوى سابقة بين الجانبين.
اللافت أن البيان الصادر عن مكتب جوليه برّر القرار بضرورة حماية «السيادة الوطنية والاستقلال الاقتصادي» للبلاد، ما يشي بأن «موانئ دبي»، التي افتتحت المحطة عام 2009، أقدمت أو في نيتها الإقدام على ممارسات من شأنها تحوير ماهية الامتياز الممنوح لها، وتضعيف الفوائد العائدة لجيبوتي من ورائه. احتمال تعززه تجارب سابقة خاضتها الشركة، التي تُعدّ إحدى أكبر شركات تشغيل الموانئ في العالم، انتهت إلى طردها من مجالات عملها، مثلما حدث لها في اليمن عام 2012، عندما أُلغيَت اتفاقية تأجيرها ميناء عدن، على خلفية اتهامات موجهة إليها بتعطيل العمل في الميناء. والجدير ذكره هنا أن نشاط «موانئ دبي» يتفاوت ما بين عمليات تطوير جادة تستهدف خدمة النفوذ الإماراتي في نهاية المطاف، وبين عمليات تعطيل متعمد خشية انعكاس ازدهار بعض الموانئ اليمنية والأفريقية سلباً على الموانئ الإماراتية وفي مقدمها جبل علي.

تتعمد «موانئ دبي» تعطيل الموانئ المنافسة للأنشطة الإماراتية


يُضاف إلى ذلك، أن للإماراتيين سوابق في انتهاك السيادة الجيبوتية، كما حصل أواخر نيسان/ أبريل عام 2015، حينما حطّت طائرة إماراتية مشاركة في عمليات تحالف العدوان على اليمن في مطار جيبوتي الدولي من دون ترخيص، وهو ما أدى إلى اندلاع أزمة دبلوماسية بين البلدين (قبل أن تنتهي أوائل عام 2016 بوساطة سعودية)، وحرمان «التحالف العربي» إمكانية استخدام قواعد جيبوتية في دعم عملياته باليمن (كان «التحالف» قد استأجر، مطلع نيسان/ أبريل 2015، قاعدة قرب معسكر ليمونييه الذي تستخدمه القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا).
وإلى جانب تلك الاحتمالات، ثمة اتهامات معلنة موجهة من قبل السلطات الجيبوتية، منذ عام 2014، إلى «موانئ دبي»، بتقديم «رشى» لرئيس هيئة الميناء والمنطقة الحرة في جيبوتي (سابقاً)، عبد الرحمن بوريه، لضمان الفوز بعقد تشغيل محطة «دوراليه» لـ50 عاماً. وعلى الرغم من أن محكمة لندن للتحكيم الدولي برّأت، في شهر شباط/ فبراير من عام 2017، «موانئ دبي» من الاتهامات المذكورة، إلا أن التجاذبات تواصلت بين الطرفين حتى صدر، الخميس، قرار الرئيس الجيبوتي بإخضاع «دوراليه» لسلطة شركة مملوكة بالكامل لحكومته. قرار عزاه مكتب جوليه إلى «الإخفاق في حل نزاع بدأ عام 2012»، من دون إيراد تفاصيل بشأن طبيعة هذا النزاع، ما يشي بأن ثمة أوراقاً أخرى لدى السلطات الجيبوتية ضد «موانئ دبي» لم تظهر بعد إلى العلن.
وجاء المرسوم الرئاسي الأخير تتويجاً لمساعٍ كثفتها حكومة جيبوتي منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بهدف تطبيق قانون صدر حديثاً، مناهض للعقد المبرم مع الشركة الإماراتية. وهو ما رأت فيه «دبي العالمية» محاولة لـ«إجبارها على إعادة التفاوض بشأن شروط الامتياز التي تبين أنها عادلة ومعقولة»، مُطالِبة، في بيان، الحكومة الجيبوتية بالكف عن «سلوكها غير القانوني»، و«مواصلة العمل بروح التعاون التي كانت قائمة منذ 18 عاماً». ولعلّ اللافت في البيان تشديد الشركة على أن تشغيلها لمحطة «دوراليه» عاد على جيبوتي بـ«فوائد مباشرة وغير مباشرة بمئات ملايين الدولارات، وعزز جاذبيتها كوجهة استثمارية رائدة في شرق أفريقيا»، في رد مبطن على الاتهامات الملقاة على «دبي العالمية» بالحيلولة بين الجيبوتيين وإمكانية الاستفادة من محطة «دوراليه»، التي تُعدّ أكبر ميناء للحاويات في أفريقيا.
في ضوء ذلك، يمكن أن يشكل القرار الجيبوتي الجديد إشارة تشجيع لحكومات أفريقية أخرى على اتخاذ خطوات أكثر جرأة ضد «موانئ دبي»، وخصوصاً الحكومة الصومالية التي تتهم نظيرتها الإماراتية بـ«انتهاك القانون الدولي»، عبر إبرامها اتفاقاً مع حكومة «أرض الصومال»، غير المعترف بها دولياً، لتطوير ميناء بربرة وإدارته لمدة 30 عاماً، باستثمارات تصل إلى 442 مليون دولار. وهو اتفاق لم يكن إلا استكمالاً لمساعي السلطات الإماراتية في تمديد أذرعها داخل دول القرن الأفريقي، ولا سيما أن سيطرتها على معظم المواقع الحيوية في إريتريا، وإقامتها قاعدة عسكرية هناك برضاء كامل من سلطات أسمرة، ولّدا لديها شعوراً غير مسبوق بالقدرة الفائقة على التوسع. شعور يحكم، كذلك، تحركات القوات الإماراتية في اليمن، التي تتطلع، من وراء كل ما تقوم به في البلد الفقير، إلى جعل موانئ عدن والمكلا والمخا والحديدة، إلى جانب الجزر الجنوبية والغربية، تحت قبضتها.
(الأخبار)