الصراع في أعلى هرم السلطة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والدولة العميقة مستمر بقوة وبنحو لا سابق له في التاريخ المعاصر للولايات المتحدة. جميع رؤساء الولايات المتحدة يتعرضون لأشكال مختلفة من الضغوط ومن النقد العلني ومن حملات التشهير من قبل خصومهم السياسيين أو من قبل جماعات المصالح واللوبيات عندما تتضرر من سياساتهم.
وقد أدى الصدام بين الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي وبعض أجنحة الدولة العميقة، كما كانت قائمة أيام رئاسته، إلى اغتياله. لكننا اليوم أمام معركة أشرس وأوسع نطاقاً أدّت إلى فرز حقيقي داخل أبرز مؤسسات الدولة وفي المجتمع وكذلك داخل الإدارة، وإلى مواجهة مستمرة بين مكتب التحقيقات الفدرالي FBI والرئيس وأقرب المقربين إليه وإلى استقالة أو إقالة 13 من كبار المسؤولين حتى الآن، ومنهم أعضاء بارزين في الإدارة، خلال السنة الأولى من رئاسة ترامب: مستشار الأمن القومي مايكل فلين ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي وكبير موظفي البيت الأبيض رينس بريبوس ومستشار الشؤون الاستراتيجية في البيت الأبيض ستيف بانون وكذلك مستشار مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض سيباستيان غوركا. والأنكى بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن هذا الصراع يتصاعد في ظل تحولات خطيرة ومتسارعة في بنية النظام الدولي وفي موازين القوى الاجمالية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي حكمت العلاقات بين أطرافه أغلبها لغير مصلحتها وبأن الصراع المذكور سيكون عاملاً إضافياً من عوامل تراجع نفوذها على الصعيد العالمي.
سرديتان سائدتان تمنعان من فهم الخلفية الفعلية للأزمة السياسية الحالية، والكثيرون لا يستخدمون كلمة أزمة عند تحليل هذه التطورات الأميركية، وعن العامل أو العوامل الحاسمة التي سبّبتها، وتحديداً العوامل الخارجية. الأولى يروجها المبشرون بالديمقراطية، أي الذين يعتنقونها باعتبارها شبه عقيدة دينية، وحلاً سحرياً لجميع مشكلات المجتمعات عبر العالم وليست مجرد آلية لإدارة الصراعات السياسية والاجتماعية سلمياً قابلة للتطبيق جزئياً أو كلياً في سياقات جيوسياسية واقتصادية - اجتماعية محددة. يرفض هؤلاء بدايةً استعمال مفهوم الدولة العميقة للحديث عن مراكز قوى غير منتخبة تساهم بنحو رئيسي في عملية صناعة القرار في ديمقراطية «عريقة» كالولايات المتحدة. هذا التوصيف يصحّ برأيهم على الدول «النامية»، كانوا حتى فترة قريبة يقولون «متخلفة»، أو «الديمقراطوريات» كما يسميها البعض، أي الأنظمة الديمقراطية شكلاً، حيث السلطات المنتخبة مجرد واجهة لمراكز صنع القرار الفعلي كما كانت الحال مع مجلس الأمن القومي في تركيا سابقاً وكما هي الحال مع مصر أو باكستان. أما في الولايات المتحدة، فمن البديهي بظنهم أن السلطات المنتخبة التشريعية والتنفيذية هي صانعة القرار وليس لقيادة الجيش وقادة الأجهزة الأمنية السبعة عشر وللمجمع الصناعي العسكري وجماعات الضغط المختلفة المسيطرة على الكونغرس والتيارات الأيديولوجية داخل الحزبين الرئيسيين أي دور في توجيه أو تعطيل عملية صناعة القرار. هم لا يستطيعون أن يشرحوا مثلاً كيف حصل التخريب المتكرر والمنهجي لمحاولات ترامب الدؤوبة للتقارب مع روسيا من قبل تكتل داخل الدولة العميقة ما زال يعتبر أنها التهديد الرئيسي بالنسبة إلى أميركا. هم تناسوا أن مبتكر مفهوم المجمع الصناعي العسكري والمحذر من خطره على الديمقراطية منذ عام 1961 هو الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في خطابه الوداعي إلى الأمة وليس أي مفكر يساري. حسب سردية هؤلاء، نحن أمام مقاومة يبديها مواطنون صالحون داخل الدولة وفي المجتمع حفاظاً على النظام الذي بناه الآباء المؤسسون وقيمه في مواجهة متسلل أخرق وصل إلى أعلى منصب في الدولة نتيجة قدرته على خداع وتضليل الرأي العام ومستفيداً من ثُغَر النظام الانتخابي الأميركي. والخاتمة طبعاً كما في الأفلام الهوليوودية هي انتصار الحق أي دولة القانون والمؤسسات.
السردية الأخرى عن خلفيات الأزمة هي التي يسوقها ترامب وأنصاره، ومفادها أن الدولة العميقة، التي أضحى يهاجمها علناً، في الولايات المتحدة أصبحت مرتهنة لمجموعة من النخب الاقتصادية والسياسية المعولمة التي انفصلت مصالحها عن مصالح غالبية الأميركيين أكانوا عمالاً أم مزارعين أم صناعيين. طبعاً، هم لا يقدمون تفسيراً وافياً لكيفية حدوث مثل هذا التحول، ولا يتطرقون إلى حقيقة أساسية، هي أن العولمة مشروع أميركي في الأصل جنت منه الولايات المتحدة أرباحاً هائلة على المستوى الاقتصادي والمالي، وأنه قام أولاً على التفوق العسكري والهيمنة الناجمة عنه قبل أي عامل آخر، وهو تفوق تسعى إدارة ترامب إلى تأبيده وتخصص له ميزانية أسطورية (603 مليار دولار). مشكلة ترامب مع العولمة أن آخرين، وفي مقدمتهم الصين، استطاعوا الاستفادة منها للتحول إلى منافسين اقتصاديين بارزين للولايات المتحدة، وهو لا يملك أية وسيلة فعلية لمنع تعاظم قدراتهم. وبدل القبول بما أوصى به زبغنيو بريجنسكي، أحد كبار الاستراتيجيين الأميركيين، بأن تنظم الولايات المتحدة تراجعها لتكون «الأولى بين متساوين»، يعتقد ترامب بأن مزيجاً من خطابات التهديد والوعيد والسياسات الاقتصادية والتجارية العدوانية كفيلة بوقف انحدار بدأ منذ أكثر من عقدين لأسباب بنيوية، وهو مستمر اليوم.
لا يمكن فصل الأزمة السياسية الحالية في أعلى هرم السلطة في الولايات المتحدة عن الانحدار المستمر للقوة الأميركية. ما كان لخصم معلن للعولمة في بعض جوانبها الأساسية ليصل إلى السلطة في واشنطن لولا التداعيات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للانحدار المشار إليه. القرن الواحد والعشرون لن يكون أميركياً.