بحسب كتاب «نار وغضب داخل بيت ترامب الأبيض»، للكاتب مايكل وولف، فإنّ الصراع المحوري في الأشهر الأولى لتولي دونالد ترامب الرئاسة كان يجري بين معدّ استراتيجياته ستيف بانون، وكبير الموظفين رينس بريبوس، والثنائي «جارفانكا»، أي إيفانكا، ابنة ترامب، وزوجها جارد كوشنر.
فكلّ من الأطراف الثلاثة ظنّ أنّ بإمكانه التأثير بترامب ورسم الخطوط العامة لسياساته، إذ يقول وولف: «الجميع اعتبر أنّ الرئيس أشبه بصفحة بيضاء، وكانت رؤية كلّ طرف لملء هذه الصفحة تختلف جذرياً عن رؤية الآخرين. فستيف بانون يمثّل اليمين البديل، وجارد كوشنر قريب من ديموقراطيي نيويورك، في حين أنّ بريبوس ينضوي تحت لواء الجمهوريين الموالين لمؤسسة الحكم».
وما ساهم في إطالة أمد هذا الصراع ومفاقمته، يقول الكاتب، كان بصورة أساسية عجز ترامب عن حلّه، أو ببساطة عدم اكتراثه كثيراً. فالرجل، كما يصوّره لنا الكتاب (وكما يبدو جلياً في إطلالاته) عاجز عن التركيز والإصغاء إلى التوصيات المفصّلة. وإذا أَطَلت عليه الحديث، كما فعل أحد مستشاري حملته، سام نانبرغ، وهو يفسّر له الدستور الأميركي، يصاب بالضجر و«يبدأ بشدّ شفّته وتبدأ عيناه بالدوران». وبالتالي، فالذين أتقنوا فنّ إقناعه بسرعة وبلا إطناب هم من أثّروا في سياسته في النهاية.

صراع بانون والعائلة

يكشف الكتاب أنّ ترامب أراد بادئ الأمر إعطاء الأدوار الأساسية في البيت الأبيض لأفراد أسرته، كما هي الحال في إمبراطوريته التجارية، حتى إنّ المقرّبين منه أطلقوا لقب «قصيّ وعديّ» (ابنا الرئيس العراقي الراحل صدام حسين) على ابني ترامب. ذلك قبل أن تسحبه المعلّقة السياسية المحافظة آن كولتر جانباً في أحد الأيام وتقول له: «يبدو أنّ أحداً لم يخبرك بعد. لا يمكنك، بكل بساطة، تعيين أبنائك». ولكنّ ترامب أصرّ على أن تلعب أسرته دوراً أساسياً في البيت الأبيض، وقد رأى جارد وإيفانكا في ذلك فرصة لكسب الشهر ولتعزيز حظوظهما السياسية. فيقول الكاتب إنّ جارد وإيفانكا اتفقا أنه «إذا سنحت الفرصة في المستقل، فستترشح إيفانكا للرئاسة أولاً. فالرئيسة الأولى للولايات المتحدة لن تكون هيلاري كلينتون، بل إيفانكا ترامب». ولكنّ وجود الثنائي في البيت الأبيض لم ينزل برداً وسلاماً عليهما، إذ بسبب القيود الشديدة المفروضة على العاملين في البيت الأبيض لضمان عدم استغلالهم لمناصبهم بهدف الإثراء غير المشروع، عانى جارد وإيفانكا من انتقادات حادة واتهامات طاولت أعمالهما. وقد ألقيا باللوم أساساً على ستيف بانون، متهمين إياه بتسريب الأخبار إلى الصحافة، خصوصاً إثر الحساسيات التي نشأت بين الطرفين إثر مطالبة بانون لهما بالتزام الضوابط البيروقراطية في البيت الأبيض وعدم تخطي موقعه.

اعتبر كثيرون أن
بانون كان الرئيس الفعلي قبل خروجه من البيت الأبيض



ومن بين الأمثلة التي يوردها الكتاب عن الانعكاسات العملية لهذا الاختلاف في وجهات النظر بين المقرّبين من ترامب، قضية اجتماع ترامب بالرئيس المكسيكي الذي اقترحه جارد كوشنر (والذي أُلغي في ما بعد). فالأخير اعتبر أنّ دوره يجب أن يتمثل بـ«توضيح آراء الرئيس إن لم نقل إعادة تشكيلها بالكامل»، وهو الأمر الذي يتعارض كلياً مع توجه ستيف بانون، الذي اعتمد سياسة عدم التراجع عن أي موقف اتخذه ترامب خلال الحملة. لهذه الأسباب، ينقل الكاتب عن ستيف بانون رغبته في «إرسال الأطفال (إيفانكا وجارد) إلى المنزل». ومن الأمور الأخرى التي ينقلها الكاتب عن لسان بانون، إطلاقه لقب «فريدو» (الابن الأخرق في فيلم «العراب» The Godfather) على نجل ترامب، «دونالد الابن»، وذلك على خلفية الاجتماع الشهير مع مسؤولين روس في «برج ترامب»، الذي يشكل الفضيحة الوحيدة التي ما زالت تلاحق ترامب فعلياً، والحدث الأبرز الذي قد يؤدي إلى إزاحته من الرئاسة.

«الشبهات الروسية»

منذ بداية حملته وحتى الآن، استطاع دونالد ترامب العبور فوق معظم الفضائح والتسريبات التي طاولته، باستثناء واحدة: الشبهات حول علاقته بالروس. فمن جهة، لا يكفّ الإعلام عن تفنيد علاقات أعضاء حملة ترامب وإدارته بالروس، مثل مايكل فلين (مستشار الأمن القومي لإدارة ترامب لفترة قصيرة)، الذي قال، رداً على اعتبار أحد أصدقائه أنّ حصوله على مبلغ 45 ألف دولار من الروس مقابل الإدلاء بخطاب ليس فكرة جيدة، «ذلك لن يشكّل مشكلة إلا إذا ربحنا». ومن جهة أخرى، فُتح تحقيق فعلي في الولايات المتحدة حول تدخّل الروس في الانتخابات الرئاسية لمصلحة ترامب، كان أحد أهم محاوره اجتماع جرى بين ترامب الابن وآخرين مع مسؤولين روس «عرضوا تقديم معلومات قد تضرّ بحظوظ كلينتون في الفوز»، اجتماع اعتبره ستيف بانون في الكتاب فعل «خيانة».
هذه الأحاديث يضعها الكاتب في سياق توجه ترامب العام تجاه روسيا، فيقول إنّ المسألة الروسية «مثال واضح على عجز ترامب عن ربط الأمور ببعضها، فحتى لو لم يتآمر هو شخصياً مع الروس، لا شك أن سعيه الدائم لنيل استحسان فلاديمير بوتين تحديداً، بين كل الأشخاص في العام، قد كلّفه الكثير في السياسة». في هذا السياق، يورد الكاتب حديثاً جرى بين المدير السابق لشبكة «فوكس نيوز» رودجر إيلز وستيف بانون، سأل خلاله الأول «بمَ تورّط (ترامب) مع الروس؟»، فأجابه بانون «ذهب إلى روسيا، معتبراً أنّه سيلتقي بفلاديمير بوتين. ولكنّ بوتين لم يكترث لأمره، فظلّ يحاول نيل استحسانه». وقد أتبع بانون قوله هذا بجملة قد تفسّر الخفة التي تعاملت بها إدارة ترامب مع المسألة الروسية، إذ قال إنّ «الصين هي الأهم. كل شيء آخر غير مهم... الصين اليوم في الموقع الذي كانت فيه ألمانيا النازية بين عام 1929 وعام 1930، وهي ستنقلب على الجميع كما فعلت ألمانيا في الثلاثينيات». هذا مجرّد واحد من الأقوال التي ينقلها الكتاب عن ستيف بانون، الذي اعتبر كثيرون أنه كان الرئيس الفعلي قبل خروجه من البيت الأبيض، الذي كان يعتبر نفسه من طينة صانعي الاستراتيجيات الكبار. بهذه الخفّة يُدار بيت ترامب الأبيض، وعلى العالم تحمّل التبعات. تلك، ربما، هي الكارثة الأبرز التي يثبتها لنا هذا الكتاب.