منذ أن وصل دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، ونحن نعيش في عالم عجائبي يشبه إلى حدّ بعيد عالم الخيال والميثولوجيا، كذاك الذي واكبنا في زمن الطفولة. أعادنا ترامب إلى عالم طفولي، لكنه عالم يخلو تماماً من براءة الطفولة، بل هو عالم يتحكم في معظم مقدراته إنسان بالغ لا تزال تسكنه طفولة شريرة كالتي وصفها الكاتب الإنكليزي الشهير وليام غولدنغ في رائعته «رب الذباب».
إنه إنسان بالغ، لكنّه يصول ويجول، تماماً كالطفل الذي يقف على كرسي ويصرخ أنه «ملك العرش»، أو يصعد إلى شجرة ويرمي منها ثمراتها اليابسة على «الأعداء» في الأسفل، معلناً النصر عليهم. وما لجوؤه اليومي، الذي لا ينقطع، إلى موقع «تويتر» ليصرخ من خلاله على العالم، سوى الصورة الأوضح لعالمه الداخلي الطفولي، وإلى «التأنيب» الذي يطاله يومياً من البالغين، بسبب صراخه هذا.
لست أنا من قد يقيّم هذا البالغ/ الطفل. ولست أرى فائدة تُذكر حتى من استعادة ذاك النص الساخر والمستقبلي، الذي كتبه الصحافي الأميركي هـ. ل. منكن في تموز/ يوليو عام ١٩٢٠، عن اليوم الذي سيصل فيه إلى البيت الأبيض رئيس في منتهى الغباء، محققاً بذلك طموحات طبقات الشعب الأميركي الساذجة، بل إن الأمر الذي استوقفني في كلامه، يوم الأربعاء الأسود، هو أن اعترافه بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ليس إلا «اعترافاً بالواقع». وهذه العبارة بالذات كررها السياسي الأقرب إلى قلبه، أي بنيامين نتنياهو، في بروكسل، أخيراً: «الاعتراف بالواقع هو جوهر السلام وأساسه». ما إن نضع هذه العبارة تحت المجهر، حتى تتجلّى لنا منعطفاتها وتشعباتها، فهي تبدو في ظاهر الأمر كأنها تكرّس مبدأ الواقعية في السياسة، أي أن السياسات في شتّى نواحي الحياة العامة والخاصة، ينبغي لها أن تستند إلى الحقائق، وما يفرضه العلم والمنطق السليم لا التمني والعواطف. وهذا طبعاً ما يحاول كل منا أن يفعله في كل منعطف من حياته. لكن مهلاً، هل هذه الوقائع والحقائق التي تحيط بنا من كل جانب، هل لها نوع من التعالي أو القداسة أو العظمة، التي يجب أن ننحني لها لمجرد كونها حقيقة؟ نقول لترامب: لو كنت رئيساً لبلادك في زمن هتلر، هل كنت ستعترف باستيلاء هتلر على أوروبا لكونها «حقيقة»؟ وهذا إبراهام لينكولن، هل كان ينبغي له أن يعترف بالعبودية لأنها «واقع»؟ وهذا جورج واشنطن الذي وقفت تحت صورته للإدلاء بتصريحك العجائبي والخبيث بشأن قدسنا: لو كنت معاصراً له، هل كنت ستهمس بأذنه أن يعترف بسلطة بريطانيا لأنها «أمر واقع»؟
ولكن هل التاريخ سوى سلسلة من ردود الفعل على الوقائع؟ من نبذ الوقائع المشينة واللاأخلاقية؟ من التفاعل المستمر مع الواقع؟ هل الاعتراف بالواقع يستدعي الاستسلام له، للجريمة، للشر، للظلم والعدوان؟ ولو قيّد للبشرية أن ترضخ للواقع، كما يعرفه ترامب وصاحبه، لما كان للبشرية تاريخ يستأهل التدوين، بل ما كان لها تاريخ أصلاً.
لكن هذا الإنسان الطفولي هو خارج التاريخ، وخارج الكرامة، وخارج الحق والعدل، وهو فوق كل هذا وذاك خارج الواقع بالمعنى الحقيقي للكلمة. دعنا إذاً نعيده إلى الحقيقة وإلى الواقع بأسرع ما يمكن، وبكل ما أوتينا من جهد ومن عشق لقدسنا.
* مؤرخ وأستاذ جامعي فلسطيني