باتت الطريق لاتفاقٍ تجاريّ بين لندن وبروكسل مفتوحةً، بعدما أعلنت كلّ من رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، ورئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، توصلهما أمس إلى اتفاق تاريخي بشأن شروط الخروج البريطاني مع الاتحاد الأوروبي. وتبدأ بعد ذلك مرحلةَ محادثاتٍ صعبة بشأن العلاقات المستقبلية، أول عوائقها الانتقادات الداخلية التي توجهها ماي.
وخلال ليل الأول من أمس، عمل المفاوضون على التوصل إلى اتفاق بعدما حدّد الاتحاد الأوروبي تاريخاً نهائياً لذلك، الأحد المقبل، فيما توجّهت ماي إلى بروكسل من أجل محادثات في وقتٍ مبكر، أمس، مع يونكر.
وأعلنت المفوضية الأوروبية أن لندن حققت «تقدماً كافياً» في مسائل تشكل جوهر انسحابها من التكتّل، بينها الحدود مع إيرلندا وكلفة «بريكست» وحقوق المواطنين. وفي ما يتعلق بفاتورة خروجها من الاتحاد الأوروبي، التي شكّلت أكثر النقاط إثارة للخلاف، وافقت لندن على تسوية مالية تقضي بدفعها ما بين 45 و55 مليار يورو. وبخصوص الحقوق الاجتماعية لنحو ثلاثة ملايين مواطن أوروبي يعيشون في بريطانيا بعد الخروج، وافقت بريطانيا على حمايتهم عبر آلية تمنح مواطني الاتحاد الأوروبي الحق بالاحتكام إلى محكمة العدل الأوروبية، إذا شعروا بأنهم لا يعاملون بنحو عادل. أما الأبرز في اتفاق أمس، فهو، وفق ماي، ضمان ألّا تعود نقاط التفتيش إلى الحدود بين إيرلندا الشمالية الخاضعة للحكم البريطاني وجمهورية إيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي، بعد «بريكست» المتوقع رسمياً بتاريخ 29 آذار 2019.
يأتي ذلك فيما عارض، سابقاً، وحدويو إيرلندا الشمالية الصيغة السابقة التي شعروا بأنها ستفصل المقاطعة عن باقي المملكة المتحدة. ولذلك، أعربت زعيمة «الحزب الديموقراطي الوحدوي»، أرلين فوستر، لشبكة «سكاي نيوز» عن «سعادتها» حيال التغييرات التي أدخلت على الاتفاق بناءً على طلب الحزب. ويلزم الاتفاق الجديد الطرفين باحترام اتفاق «الجمعة العظيمة»، الذي أبرم عام 1998 وأنهى عقوداً من العنف مع القوميين الذين طالبوا بالانضمام إلى جمهورية إيرلندا، ووحدويي إيرلندا الشمالية الموالين لبريطانيا. وستجد لندن بموجب الاتفاق طريقة لتفادي وجود حدود فعلية على جزيرة إيرلندا «في إطار العلاقات العامة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة»، لكن إذا تبيّن أن ذلك أمر لا يمكن تحقيقه، فإن لندن «ستلتزم بالكامل» قواعد السوق الموحدة والاتحاد الجمركي الأساسيين في اتفاق «الجمعة العظيمة».
من جهته، رحّب رئيس الوزراء الإيرلندي، ليو فارادكار، أمس، بالاتفاق الذي اعتبر أنه يشكل «نهاية المرحلة الأولى من المفاوضات»، لكنّه أكّد ضرورة «البقاء متيقظين في المرحلة الثانية» منها.

سيعمل الاتحاد على اتفاق تجارة حرة يشبه الاتفاق بينه وبين كندا

وفي المرحلة التالية، سيعمل الاتحاد الأوروبي على اتفاق تجارة حرّة لفترة ما بعد الخروج يشبه الاتفاق القائم بين التكتل وكندا رغم رفض لندن له، مع إشارة الاتحاد إلى أن إصرار بريطانيا على مغادرة السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي لم يترك خياراً آخر. يأتي ذلك في إطار تحذير رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، الذي سيوصي قادة الاتّحاد في قمّة الأسبوع المقبل بفتح المحادثات المرتبطة بالتجارة والمرحلة الانتقالية، من أن الأصعب لم يأتِ بعد. ودعا توسك إلى التذكّر «أن التحدّي الأصعب لا يزال أمامنا. نعرف جميعاً أن الانفصال صعب، لكن الأصعب هو الانفصال وبناء علاقة جديدة». ودعا كذلك إلى أن توضح بريطانيا بشكل أكبر نوع العلاقة التجارية التي ترغب بها، بعد انسحابها من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي. وعكس ذلك تصريح كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ميشال بارنييه، الذي رأى أن الأخذ بشروط بريطانيا، التي تتضمن كذلك خروجها من حرية الحركة المطبقة بين دول التكتل، لا يبقي إلا على «اتفاق للتجارة الحرة على غرار النموذج الكندي».
ويتوقع أن يصدر توسك مسودة إرشادات بشأن العلاقات الدولية، اليوم، ليتسنى للدول الأعضاء إقرارها قبل قمة الأسبوع المقبل. وقال إنه ستوضع مجموعة منفصلة من الإرشادات العام المقبل بشأن التعاون في مجال الأمن والإرهاب. وأضاف المسؤول الأوروبي أنه سيقترح بدء المحادثات بشأن الفترة الانتقالية فوراً، التي قدرت بريطانيا أن تستغرق نحو عامين. لكنه حذر من أنه سيكون على لندن «احترام قانون الاتحاد الأوروبي بأكمله بما في ذلك القوانين الجديدة» التي تقرّ خلال هذه المدة.
وبعد مفاوضات تركزت على مسائل متعلقة بإيرلندا الشمالية، تواجه ماي تحديات أخرى في كلّ من اسكتلندا ووايلز، حيث التأييد للاتحاد الأوروبي قويّ. وحذّرت رئيسة وزراء اسكتلندا، نيكولا ستورجن، المؤيدة لاستقلال اسكتلندا عن بريطانيا من أن «الشيطان يكمن في التفاصيل والأمور الآن تزداد صعوبةً». ورأت عبر «تويتر» أنه «إذا كان بريكست يحدث (وأتمنّى ألّا يحدث)، فإنّ البقاء في السوق الموحدة والاتّحاد الجمركي هو الخيار المعقول الوحيد»، مضيفةً أنّ أي «ترتيبات خاصة» حول إيرلندا الشمالية يجب أن تكون متاحة أيضاً لاسكتلندا.
داخلياً، تعرضت ماي على الفور لانتقادات من متشددين في الداخل لتقديمها تنازلات، إذ قال نايجل فاراج، وهو الرئيس السابق لـ«حزب استقلال المملكة المتحدة»، وأحد محركي استفتاء العام الماضي، لإذاعة «بي بي سي» إن «هذا ليس بريكست». وتجد نفسها ماي الآن محاصرةً من منافسين مؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي وفصائل أخرى داخل حزبها المحافظ مؤيدة للاتحاد الأوروبي. وما زالت تواجه خطر إطاحتها منذ الانتخابات العامة، في حزيران الماضي، التي خسرت فيها الأغلبية. في المقابل، بادر الوزراء لتهنئة ماي وقال نائبها، داميان غرين، إنها كانت «لحظة نجاح كبيرة» لها. وقال وزير البيئة مايكل غوف، المدافع الكبير عن «بريكست»، والذي ترشح ضد ماي في انتخابات قيادة الحزب العام الماضي، إن الاتفاق المرحلي «إنجاز شخصي وسياسي مهم».
وصدرت تحذيرات أيضاً عن المعارضة، فقد رحّب كبير المتحدثين بشأن «بريكست» في حزب «العمال»، كير ستارمر، بالاتفاق، لكنه حذر من أن «الثمن السياسي للتنازلات» لم يُعرف بعد. وتساءل الليبراليون الديموقراطيون المؤيدون للاتحاد الأوروبي، الذين كانوا قد دعوا إلى استفتاء ثانٍ حول العضوية في الاتحاد «كم من الوقت سيمر قبل أن يمزقه نواب حزبها».
(الأخبار، أ ف ب)