خلاف بين نسوة ريفيّات على بئر ماء. هذا سبب كافٍ، في الواجهة، لأن نشهد احتراباً أهليّاً في باكستان. فتيل يشتعل حتّى يكاد يحرق البلاد بأسرها. يُحكم على «آسيا بيبي» بالإعدام، في أقليم البنجاب، بتهمة «الإساءة إلى النبي محمد». هي مسيحيّة، مِن أقليّة ضئيلة هناك، فيما النسوة اللاتي ادعين ضدّها، إثر خلافهن معها، مُسلمات على «الحنفيّة». حصل ذلك عام 2009. لم تُعدَم، إنّما بقيت في السجن في انتظار تنفيذ العقوبة حيث جرى «تدويل» قضيّتها.
جرت المُحاكمة وفق «قانون التجديف» (أو ازدراء الأديان). خرج حاكم إقليم البنجاب، سلمان تيسير، منتقداً هذا القانون وداعياً إلى الإصلاح في شأن الحريّات (الدينيّة خاصّة). ترافقت دعوته مع دعوات دوليّة إلى ذلك (كدعوة بابا الفاتيكان). أيضاً، طالب بالعفو عن «بيبي» وسعى في الأمر. تيسير يُجازف بمخالفة المزاج الديني الحاد في بلاده. جرى اغتياله عام 2011 في إسلام آباد. فعلها مرافقه الشخصي، ممتاز قادري، وذلك «انتقاماً للنبي». ألقي القبض على القاتل وأودع السجن. إنّه إسلامي الهوى... والتنظيم. سيُعدَم قادري عام 2016 لقتله الحاكم. كان، قبل ذلك، قد أصبح في نظر شارع باكستاني واسع «بطلاً إسلاميّاً». إنّه أحد أتباع الجماعة البريلويّة، الواسعة الانتشار هناك، والمحسوبة كطريقة صوفيّة ذات نزعة عنفيّة (إلى حدّ ما). جماعة تأسّست قبل قرن ونيّف، على يد أحمد رضا خان، وتشتهر بـ«الإخلاص الشديد» لنبي الإسلام، بل المغالاة فيه، مُقارنة بالطرق الأخرى. تاريخيّاً، عُرِفوا بـ«الاعتدال» مُقارنة بتيّار «أهل الحديث» (السلفيّة)، وكذلك مقارنة بجماعة المدرسة «الحنفيّة الديوبنديّة». هذه المدرسة الأخيرة تُعدّ المنافس الديني التقليدي للبريوليّة، وقد اتسمت تاريخياً بالميل إلى العنف أكثر، وبالتالي لم يكن مُستغرباً أن تنبثق منها «طالبان» الباكستانيّة (إضافة إلى تيار تنظيم القاعدة وجماعة لشكر طيبة). مفهوم الاعتدال في تلك البلاد نسبي جدّاً، كذلك مفهوم العنف. يصعب تحديد ذلك مِن غير مقارنات سلوكيّة للجماعات والمدارس والتيّارات المختلفة. إعدام قادري، مطلع العام الماضي، جعل الجميع يكتشف الوجه الآخر للبريوليّة، أو ربّما الوجه الذي أصبحت عليه في تطوّرها التاريخي، وبالتالي الدور المنوط بها الآن في السياسة العامة لباكستان. أخذت تحرّكاتهم تنحو أخيراً في اتجاه العسكرة. بدوا أكثر تنظيماً. أظهروا قوّتهم وحشدهم في تشييع «البطل» (ابن طريقتهم). ملأوا الشوارع. لمع نجم خادم حسين رضوي، كأحد أبرز شخصيّات الطريقة، والآن كمتزعّم لـ«حركة لبّيك يا رسول الله». شخصيّة جدليّة وصاحب أسلوب لافت في إلقاء الخطب، ويمتاز بعلاقاته «الصوفيّة» التي تمتد إلى خارج البنجاب، بل إلى خارج باكستان.
سيتضخّم حضور رضوي إلى حدّ شلّ البلاد قبل أيّام. بآلاف الأنصار أقفل، بل احتل، الطريق الرئيسي الرابط بين إسلام آباد ومدينة راولبندي (المدينة ذات السِمة الحضريّة ومِن الأشهر صناعيّاً). خنق العاصمة ومحيطها لنحو ثلاثة أسابيع. مَن هم هؤلاء؟ هكذا راح العالم يَسأل. الآن لديهم مطلب ديني جديد: على وزير العدل، زاهد حامد، أن يتراجع عن اقتراحه الأخير، المسيء للإسلام والنبي برأيهم، ثم عليه أن يستقيل. كان حامد، قبل مدّة، يُحاول أن يُدخل تعديلاً على نصّ القَسَم الذي يؤدّيه المرشّحون للانتخابات. التعديل يفرض أن يُغيّر في ذكر النبي محمد كـ«خاتم للأنبياء». قيل إنّ ذلك مراعاة للطائفة الأحمديّة، أو القاديانيّة، الموجودة في البلاد. طائفة أقلويّة، وهي غير رسميّة هناك، إنّما موجودة وذات نفوذ في بعض مفاصل الدولة. لديها حضور في الخارج، في أكثر مِن دولة، ونفوذها المالي لا يخفى على المتابعين. نفى الوزير أن يكون هذا سبب اقتراحه التعديل، وراح يُردّد بخوف، مناشداً التفهّم: «لست أحمديّاً، أنا وعائلتي مستعدّون للتضحية بأرواحنا مِن أجل النبي». لقد تعلّم الدرس مِمَن سبقه، وهو، قبل ذلك، يعرف جيّداً «القانون الواقعي» في بلاده. الميرزا غلام أحمد، المولود عام 1839 في قاديان الهنديّة، هو مؤسّس الطائفة الأحمديّة المذكورة، وقد كان يرى نفسه كأحد الأنبياء (بمعنى ما). على هذا، سار خلفه مَن آمن بدعوته. هذه هي المشكلة مع نصّ القَسَم الآن. المُهم، كيف انتهت الأزمة الأخيرة في باكستان؟ انتصرت البريلويّة. سقط التعديل على القانون... واستقال الوزير. أمر رضوي أتباعه: فكّوا الاعتصام. الانتخابات النيابية مقبلة. اقترب موعدها. ما حصل ليس مسرحيّة معلّقة في الهواء. محطة تندرج ضمن اللعبة التقليديّة في «بلاد العسكر». لا أحد أكثر نفوذاً مِن الجيش هناك. هو «السُلطة» تاريخيّاً (بالمعنى العميق). الجيش لم يتدخّل لإنهاء تحرّك «جماعة لبّيك» البريلويّة. دعته الحكومة إلى ذلك، لكنّه لم يفعل. حصلت صدامات بين المحتجّين والشرطة، وسقط قتلى، إلا أنّ الجيش لم ينزل إلى الشارع. هذا ليس لغزاً في باكستان. العسكريون دعوا إلى حل تسووي، وهذا ما كان. بالمناسبة، باكستان بلد نووي! يُمكن لجماعة صوفيّة صاعدة أن تنتصر، في الشكل، على حكومة نوويّة. هذا يحصل هناك.
ينتظر نواز شريف، بعد الانتخابات التشريعيّة، أن يعود إلى رئاسة الحكومة. إقالته مِن منصبه، قبل أشهر، كانت على خلفيّة تورّطه في قضايا فساد (وثائق بنما وغيرها). رئيس الحكومة الحالي ينتمي إلى حزب شريف. كان، بعد انتهاء الأزمة الأخيرة، في زيارة للسعوديّة. التقى الملك سلمان بن عبد العزيز. لشريف علاقات وطيدة، تاريخيّاً، بالسعوديّة. داخليّاً، هو محسوب على المدرسة «الحنفيّة الديوبنديّة». هي شارعه التقليدي. المشكلة، بالنسبة إليه وحزبه، أن هذه المدرسة، بسبب الصيت الذي باتت تحمله كرافدة لـ«طالبان» و«القاعدة» والموجة «الداعشيّة» عموماً، أصبحت ورقة محرجة أمام «المجتمع الدولي». ذات يوم، كانت هذه المدرسة هي «المظلة الشرعيّة» للمؤسسة العسكريّة، الحاكمة الفعليّة، في باكستان. لا بدّ مِن مظلة دينيّة دائماً. هذه مِن أساسيّات الحكم. معادلة «الضابط والشيخ» أصيلة في بلاد محمد إقبال. الحاجة الآن إلى مظلّة تكون مقبولة دوليّاً ويمكن، في الوقت عينه، أن تكون فاعلة داخليّاً. هل يأتي تعويم تيار البريلويّة أخيراً في هذا الإطار؟ ربّما. جماعة قويّة، منظّمة، لديها العدد والنفوذ، والأهم أنّها ليست موسومة بـ«الإرهاب» (بعد). على العكس، هي لطالما هاجمت، قديماً وحديثاً، الأسس الأيديولوجيّة للتيار السلفي، هاجمت «الوهابيّة» صراحة، كما خاصمت أفكار «ابن تيميّة»... فضلاً عن اختلافها القديم مع «الديوبنديّة» (المحليّة).
بالمناسبة، عاد اسم الشيخ طاهر قادري إلى الظهور أخيراً، وهو أحد أبرز الوجوه البريلويّة الفاعلة، وصاحب العلاقات الدوليّة المتنوّعة. يصفه البعض بـ«غولن باكستان». هو يبني المدارس والمؤسسات، لكن بالتأكيد ليس لديه ما لدى الداعية التركي فتح الله غولن تركيا، إضافة إلى اختلاف المنطلقات النظريّة بين الشخصيتين. لقادري مِن النفوذ في الداخل والخارج ما يجعله، مع استمراره بالمراكمة، رقماً صعباً في بلاد السند القديمة. هو يكره التيارات «الداعشيّة» ومن يدعمها، ولديه علاقات جيّدة مع الجارة إيران، ما يؤهله لأن يلعب دوراً يُرضي جنرالات المؤسسة العسكريّة. يبدو أن الجيش لا يُريد الذهاب بعيداً في توتّرات المنطقة. لا يُريد أن يُقاتل بين يدي السعوديّة مثلاً، عكس ما كان يرغب رئيس الحكومة السابق، نواز شريف، وقد ظهر هذا في الامتناع عن الالتحاق بـ«التحالف السعودي» عسكريّاً لضرب اليمن. مِن السذاجة فصل الأحداث الأخيرة في باكستان عمّا يجري في الاقليم. كانت رسالة لمن يهمه الأمر. أميركا وبريطانيا حاضرتان في المشهد دائماً. هذا تقليد سياسي. بريطانيا، المُستعمِرة القديمة لشبه القارة الهنديّة، كانت فرحة لكون المُسلم الهندي سيُصبح له دولة مستقلة، بعد التقسيم، اسمها باكستان. دولة يُمكنه أن يذبح فيها بقرة ويأكل لحمها، بهدوء، فيما يُقدّسها الهندوسي وراء الحدود. دور بريطانيا في تعويم ذاك «الكوكتيل» مِن الطوائف المتناحرة، وصناعة بعضها، مسألة معلومة كحقائق تاريخيّة. اللعبة نفسها ما زالت تُلعب هناك، والدين فيها كطابة «كريكيت» إنكليزيّة، وإن زاد اليوم عدد اللاعبين. كلّ هذا والحديث عن الملعب السُني فقط. أمّا الدماء المسفوكة، بين السُنّة والشيعة هناك، فهذه حكاية وحدها يطول سردها. كان مالك بني نبي لمّاحاً، في قراءته للمشهد التقسيمي للهند، إذ يقول: «إنّه مكر يبلغ ذروته، حيث استطاعت إنكلترا بهذه الطريقة أن تترك الهند في حالة تمزّق نهائي». هذا بعض مِن مشهد باكستان اليوم، بلد الـ 200 مليون نسمة، والبلد الذي، بحسب تقرير حكومي، يعيش فيه أكثر مِن 24 مليون طفل «بلا تعليم».