جاء رد الفعل الغربي على مخرجات مؤتمر «الحزب الشيوعي» في الصين، الذي انتهت فعالياته الأسبوع الماضي، بين مرحّب رأى أنها «بادرة جيدة لإصلاح (لبرلة) الاقتصاد الصيني»، وبين متخوّف من «التوجه الديكتاتوري» لهذه الخطوة ودرجة تقبّل الشعب الصيني لها. وبطبيعة الحال، لا يخفى المنحى الاستشراقي والأيديولوجي النيوليبرالي في الموقفين، وخاصةً أن التوقعات بأزمة صينية قريبة لم تعد تؤخذ بجدية.
وإلى الآن، يبدو أن بكين تملك مناعة ضد الأزمات الاقتصادية الآتية من الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، يرى اقتصاديون ذوو عقليةِ «نهاية التاريخ» على النحو الفوكويامي أنه في نهاية المطاف ستكون الصين أمام خيارين: قبول اللبرلة، أو الانهيار... لكن بالنسبة إلى «الحزب الشيوعي»، يوجد خيار ثالث قد يوصف بـ«إمبريالية ذات خصائص صينية».

الصين ما بعد أزمة 2008

بَنَت الصين اقتصادها على أسس تختلف عن تلك التي قامت عليها اقتصادات «الغرب» الرأسمالية، وكان لها تسميات عدة من «الماركسية الشرقية» إلى «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، أو «الرأسمالية الآسيوية». وبتسخير كمية هائلة من القوى العاملة والاستثمار الرأسمالي في الإنتاج العالي الكفاءة (إلى جانب ضبط عملتها اليوان)، تمكنت الصين من رفع نموها إلى مستويات خيالية على مدى عقود. كما تمكنت عام 2008 من تفادي الآثار المباشرة للأزمة المالية التي بدأت في سوق العقارات الأميركي واجتاحت العالم، لكنها شهدت انخفاضاً في النمو إثر تراجع سعة الولايات المتحدة في تلك السنة عن لعب دور «المينوتور العالمي» القائم على استهلاك فوائض الإنتاج في العالم، طبقاً للاقتصادي اليوناني ووزير المال السابق، يانيس فاروفاكس.
وبينما تجزم التحذيرات الغربية بأن هذا التباطؤ دلالة على أزمة قادمة، يرى الخبير الاقتصادي من «جامعة ييل» الأميركية، ستيفن روتش، أن هذا الكلام حول انتهاء «قصة التنمية في العالم الحديث»، لا يأخذ بعين الاعتبار التحوّل البنيوي الذي يشهده النموذج الاقتصادي الصيني، إذ يفتح النموذج الإنتاجي القائم الذي يقوده التصنيع، المجال لنموذج استهلاكي خدماتي تتزايد قوته إلى أن صار عام 2013 أكبر قطاع في الاقتصاد الصيني، ما يجعل هذا التباطؤ في النمو، وفق روتش، أمراً ضرورياً ومرحباً به.

نموذج «شيزو تشاينا»

يتحول النموذج الاقتصادي للبلاد
من إنتاجي إلى استهلاكي خدماتي

كثيراً ما يذكر الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أهمية «الانفتاح على العالم». وعادة تترجم هذه المقولة في العقل الغربي إلى نية الصين الإقدام على «الإصلاحات» الضرورية للتحول إلى اقتصاد ليبرالي ديموقراطي، ولكن «الصين الليبرالية» التي كان من المفترض أن تولد تحت قيادة جين بينغ لا تتحقق. أما الصين «الشيزوفرينية»، التي تشكّلت في العقود الماضية فلا تتحدد لها وجهة واضحة، ولا بنية محددة، إذ ينظر إليها الغربيون على أنها «الآخر المستحيل» غير القابل للامتصاص في شبكتهم الاقتصادية، والثقافية، والمعرفية.
أما الصين، فتطمح اليوم إلى تصدير نموذجها الاقتصادي والإنتاجي إلى العالم عبر مشاريع استثمارية في البنى التحتية لدول آسيوية وأفريقية وأوروبية. ووصف جين بينغ في أيار الماضي هذه «الإمبريالية ذات الخصائص الصينية» كالآتي: «في سعينا لتنفيذ مشروع الحزام والطريق، لن تطأ أقدامنا السبيل القديم، سبيل الصراعات بين الأعداء، بل سنخلق نموذجاً جديداً للتعاون والمنافع المشتركة»، مضيفاً «علينا أن نبني هيكلاً مفتوحاً للتعاون، وأن نساند وننمّي اقتصاداً عالمياً مفتوحاً». أيضاً، شدد الرئيس الصيني على أن بلاده مستعدة لإطلاع الدول المشاركة على خبرتها في الإنماء»، وأنها «لن تتدخل في شؤون تلك الدول الداخلية». كما ختم بأنه «لا يهم إن كانت الدول آسيوية أو أوروبية أو أفريقية أو من الأميركيتين، كلها شريكة في بناء الحزام والطريق».
وتأكيداً لقدرتها على تحقيق أهدافها، دعا «الصديق القديم» للصين ووزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، في كلمة ألقاها في أيلول الماضي في جامعة كولومبيا، الغرب إلى تقبل الصين التعاون معها في مشروع «الحزام والطريق» وفي «البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية»، في حين يتبدّل مركز الثقل في العالم. تردد هذا الموقف في هونغ كونغ أيضاً حيث نشرت منذ مدة صحيفة «South China Morning Post» الممولة من جهات غربية، ملفاً يحذّر أوروبا والولايات المتحدة من خطر تجاهل مشروع «الحزام والطريق» الصيني، معلنةً مشاركة هونغ كونغ في اتفاقات «طريق الحرير». رسالة الصحيفة إلى الغرب كانت أنه لا يمكنهم ترك الصين تفعل ما تشاء، كما أنهم ليس بإمكانهم منعها أو منافستها، وخاصة في ظل أوضاعهم الاقتصادية والسياسية؛ «إذاً، لا بد لهم من أن يشاركوها الاستثمار».

عودة من المستقبل

بحكم ظهورها كأنها تملك مناعة ضد الأزمات الآتية من الولايات المتحدة وارتفاع نموها على مدى عقود، ومع تحوّلها من مستعمرة إلى الاقتصادي الثاني في العالم، أصبحت الصين في العقود الماضية موضوع نظريات وروايات عدة تتنبأ بأن «المستقبل صيني». ولكن تتخذ بعض هذه النظريات مساراً غريباً قد يبدو كأنه أقرب إلى الخيال العلمي من نظرية واقعية. يرى هؤلاء أن «حدثاً ما» يتشكّل وراء الواجهة المتمثلة بزعيم قوي يحذو بشعبية كبيرة، ودولة قوية تجدد فرض سلطتها المركزية في الداخل، واقتصاد دائم النمو تطرحه كنموذج بديل للنيوليبرالية الإمبريالية.
يطرح الفنان الصيني لورينس ليك في وثائقي بعنوان «Sinofuturism» هذا «الحدث» على أنه «خيال علمي بات موجوداً فعلياً»، مستقبل «وُجد عن غير قصد ودون مؤلف». لا يركّز ليك على الواقع السياسي الحالي للصين، بل على واقعها «الافتراضي»، ذاهباً في الاتجاه نفسه الذي يتخذه ماركس في قوله باستقلال الرأسمالية عن رغبات وتحكّم البشر، الذين لا يشكلون فيها إلّا «روابط ذات وعي» في المنظومة. وينظّر ليك لذكاء اصطناعي، لكيان مستقل، يسمّى الصين، لا علاقة له بالصين كدولة أو اقتصاد، أو منظومة إنتاحية مباشرة، بل يولد من «حتمية» ذهابها نحو «اندماج المجال البيولوجي بالمجال التكنولوجي» نتيجة سرعة وتفاقم التطور إلى حد خروجه عن طور أي سلطة بشرية مهما كانت قوية.