جاءت مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الدورة الـ14 لـ«منتدى فالداي»، كلاسيكية على مستوى الشكل هذه السنة، إلا أنّها تحمل في مضمونها ثقة روسية بدور موسكو الحالي على مستوى النظام الدولي.
وفي الأصل، يرتبط هذا المنتدى الذي يطرح قضايا دولية، بمشاركة خبراء وأكاديميين روس وغربيين، بعهد حكم بوتين لروسيا، إذ إنّه تأسس في عام 2004، بهدف «تشجيع النقاشات بين النخب الفكرية الروسية والدولية وتقديم تحليلات أكاديمية مستقلة، مرتبطة بالتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في روسيا والعالم».
ومع عودة روسيا التدريجية إلى قلب السياسة الدولية وارتفاع مستوى تأثيرها في غير مكان من العالم، أخذ هذا «المنتدى» طابعاً آخر، إذ ابتعد منظّموه عن واقع إخبار العالم عن روسيا، باتجاه السعي إلى الإسهام في أجندات البحوث الدولية، وبالتالي إلى تعزيز النقاشات مع النخب الفكرية، الغربية بصورة خاصة، بغية «التغلّب على الأزمة العالمية الراهنة»، كما يقول المنظّمون.

بعض الشركاء يسعون لجعل الفوضى في الشرق الأوسط مستدامة

وبالرغم من أنّ هذا «المنتدى» يظهر متواضعاً إذا ما قورن بغيره من المنتديات الدولية، فإنّ المشاركة الشخصية لأعلى رأس هرم الدبلوماسية الروسية، رئيس البلاد، يرفع من أهميته، خاصة في اليوم الأخير حين يشارك في الندوة الختامية ويلقي فيها خطابه السنوي الأهم عن السياسة الروسية الخارجية.
وفي تعليق على هذا الحدث السنوي، رأى الكاتب الروسي في وكالة «بلومبرغ»، ليونيد برجيدسكي، أنّه «في الأعوام الماضية، صاغ الرئيس الروسي سردية تقول إنّ روسيا كانت تتعرض للإهانة والمذلة من قبل الولايات المتحدة، حتى قررت رفض ذلك... (لكن هذا العام) استُبدلت هذه السردية بإشارة إلى محور قوة جديد، يرتكز على روسيا، وهو محور سوف يُعرِّف، في الجزء الأكبر منه، معارك بوتين الجيوسياسية خلال المدة المتبقية له في السلطة».
ولعلّ من أهم ما قاله بوتين هذا العام، حين أجاب عن سؤال لأحد الصحافيين بشأن طبيعة العلاقات بين روسيا والغرب، هو إن: «أكبر خطأ هو أننا وثقنا فيكم أكثر ممّا ينبغي. لقد فسّرتم هذا على أنه ضعف وانتهزتم ذلك». وتابع أنّه «إذا أدركنا هذا الواقع، فعلينا إدخال تعديلات... وقلب هذه الصفحة والسير قدماً، فنبني علاقاتنا على أسس الاحترام المتبادل، وأن نتعامل بصفتنا شركاء متساوين».
وهذا العام، كرر بوتين حديثه عن نظرة روسيا إلى النظام العالمي منذ التسعينيات، قائلاً إنّ «من اعتبر نفسه منتصراً بعد الحرب الباردة، أصبح يتدخل في الشؤون الداخلية لدول مختلفة»، ومعبِّراً عن أسفه لأنه «بعدما قسّم شركاؤنا الغربيون الإرث الجيوسياسي للاتحاد السوفياتي، كانوا واثقين من عدالتهم غير القابلة للجدل بعدما أعلنوا أنفسهم المنتصرين في الحرب الباردة».
وفي إشارة إلى رفض روسيا لجملة من المفاهيم على صعيد السياسة الدولية والتي تعزز «الأحادية القطبية» للنظام الدولي بدلاً من أن يكون أكثر تعددية، كما ترغب فيه روسيا، رأى بوتين أنّ «حدة المنافسة على مرتبة أعلى في سلّم السلطة العالمية تتصاعد، والآليات السابقة للإدارة العالمية وتجاوز النزاعات والخلافات الطبيعية أصبحت غير قادرة على حلّ المشاكل، وهي دائماً لا تعمل، فيما لم يتم وضع آليات جديدة». وأضاف الرئيس الروسي، الذي يستعد لاستحقاق تجديد ولايته الرئاسية في العام المقبل، أنّ «الأمم المتحدة منظمة لا بديل لها»، مستدركاً في الوقت نفسه أنّها «بحاجة إلى إصلاحات تدريجية».
أما في ما يخصّ العلاقة مع واشنطن، فقد لفت بوتين إلى أنّ العلاقات الأميركية الروسية حالياً تعرف واقعاً صعباً، مشيراً إلى حملة مناهضة لروسيا «لم يسبق لها مثيل» في الولايات المتحدة، إلى جانب إغلاق منشآت دبلوماسية روسية هناك وضغط السلطات الأميركية على وسائل إعلام روسية. وفيما لم يُوجِّه انتقاداً شخصياً للرئيس دونالد ترامب، فإنّه قال إنّ سلوكه لا يمكن التنبّؤ به، لأن خصومه في الداخل يعرقلون توجهاته.
أيضاً، اتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة بمحاولة إخراج روسيا من أسواق الطاقة الأوروبية من خلال أحدث جولة من العقوبات التي أقرّها ترامب على مضض، لتصبح قانوناً في شهر آب، إثر موافقة الكونغرس عليها. وفي الوقت نفسه، فإنّه أشار إلى أنّ واشنطن تراجعت عن «تطبيق التزاماتها في إطار الاتفاقات بشأن تقليص أسلحة الدمار الشامل»، مذكِّراً بأنّ الولايات المتحدة «تمتلك أكبر ترسانة للأسلحة الكيميائية» في العالم، وبأنّها أجّلت موعد إتلافها من عام 2007 إلى عام 2023.
على صعيد آخر، وفي قراءة للرئيس الروسي لسياسة بلاده في الشرق الأوسط، قال إنّ «محاربة روسيا للإرهاب في الشرق الأوسط تجري في إطار القانون»، متّهماً في الوقت نفسه «بعض الشركاء بالسعي لجعل الفوضى في المنطقة مستدامة». وشدد على أنّ «بعض التجارب الحديثة، بما في ذلك القضية السورية، (تُظهر أنّ) هناك بديلاً لمثل هذه السياسة المدمرة». وفي هذا الصدد، أشار إلى أنّ ما قامت به موسكو في الشرق الأوسط «ليس أمراً سهلاً، إذ هناك خلافات كثيرة جداً في المنطقة، إلا أننا تحلّينا بالصبر خلال عملنا، وبدقة عالية، وبدراسة كل خطواتنا وكلماتنا مع جميع المشاركين في هذه العملية، وذلك باحترام مصالحهم».
(الأخبار)