هي الزيارة الأميركية الأرفع مستوى منذ أشهر للجمهورية السوفياتية السابقة. نائب الرئيس مايك بنس، وصل أمس إلى إستونيا، في خضم توتر حاد في العلاقات الروسية ــ الأميركية، يسلك مساراً تصاعدياً، ويقترب هذه الأيام من بلوغ نقطة متقدمة في ظل المساعي التي يبذلها المشرّعون الأميركيون لإمرار عقوبات على الخصم الروسي اللدود.
وإذا كانت سوريا وأوكرانيا تمثلان، في الوقت الراهن، نقطتي التصعيد الأكثر تفجراً في الصراع الأميركي ــ الروسي على «أوراسيا»، فإنّ إستونيا، ومعها شقيقتاها لاتفيا وليتوانيا، تتحوّل، يوماً بعد يوم، إلى ميدان آخر للمنازلة الكبرى بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وهو ما تعكسه التحرّكات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة في منطقة البلطيق، والتي تقابلها تحرّكات مقابلة، لم تعد مقتصرة على روسيا منفردة.
ولم يعد خافياً، أن الولايات المتحدة وجدت في البلطيق، بجمهورياته السوفياتية السابقة الثلاث، نقطة متقدمة للصراع ضد روسيا بعد انتقال خط المواجهة التقليدي باتجاه الشرق، منذ سقوط جدار برلين وتفكك «حلف وارسو»، ملامساً بذلك الحدود الغربية لروسيا، بموازاة خط مواجهة آخر، عند حدودها الجنوبية، ويشمل أوكرانيا، التي تحوّلت إلى بؤرة ساخنة منذ نحو ثلاث سنوات، وجورجيا، التي كانت ميداناً لمنازلة عسكرية ضارية قبل عقد من الزمن، وستكون إحدى محطات الجولة الإقليمية الحالية لبنس.

يأمل قادة جمهوريات
البلطيق أن يخاطبهم بنس
بما يودّون سماعه

ويشمل جدول أعمال نائب الرئيس الأميركي في إستونيا إجراء محادثات مع رئيس الوزراء يوري راتاس، تتناول على وجه الخصوص مسألة نصب أنظمة دفاع جوي أميركية تطالب دول البلطيق بنشرها على الحدود الشرقية لـ«الحلف الأطلسي». كذلك، يلتقي بنس، اليوم، في تالين رئيسة إستونيا كيرستي كاليوليد، ورئيسة ليتوانيا داليا غريبوسكيت ورئيس لاتفيا ريموندس فيونيس، كما سيتفقد جنود كتيبة من القوة التي ينشرها «الحلف الأطلسي» في أوروبا الشرقية.
ويأمل قادة جمهوريات البلطيق أن يخاطبهم نائب الرئيس الأميركي بما يودون سماعه، لجهة التأكيد على استمرار برامج التعاون العسكري، وتبديد المخاوف بشأن مواقف دونالد ترامب المشككة في جدوى «الحلف الأطلسي»، ولا سيما ميثاقه القائم على مبدأ أن الاعتداء على أي عضو هو بمثابة اعتداء على كل الدول الحليفة.
وفي أعقاب ذلك، سوف يتوجه نائب الرئيس الأميركي إلى تبليسي، حيث يلتقي الرئيس غيورغي ماركفيلاشفيلي، ورئيس الوزراء غيورغي كفيريكاشفيلي، على أن يتفقد جنوداً أميركيين وجورجيين يشاركون في مناورات «نوبل بارتنر ــ 2017».
وبعد جورجيا، سينتقل بنس إلى مونتينيغرو، الدولة السلافية الصغيرة الواقعة في البلقان ــ وهي نقطة أخرى للصراع الجيوسياسي بين روسيا والولايات المتحدة ــ والتي أصبحت في الخامس من حزيران الماضي عضواً في «الأطلسي»، ما أثار غضب روسيا.
ويشارك بنس، بعد غد الأربعاء، في قمة منظمة «الميثاق الأدرياتيكي» السنوية، والتي تجمع الولايات المتحدة ومونتينيغرو وأربع دول أخرى من المنطقة، هي: كرواتيا، البوسنة والهرسك، ألبانيا ومقدونيا، إلى جانب سلوفينيا وكوسوفو وصربيا بصفة مراقب.
وتركز منظمة «الميثاق الأدرياتيكي»، التي أنشئت عام 2003، نشاطها على التحضير لانضمام أعضائها إلى «الحلف الأطلسي»، وهو ما تحقق حتى الآن بالنسبة إلى ألبانيا وكرواتيا ومونتينيغرو، بالإضافة إلى الدولة المراقبة سلوفينيا.
وبالرغم من أن جولة بنس ليست استثنائية في شكلها، ولا في طابعها، إلا أن توقيتها يجعلها، من دون أدنى شك، تتجاوز الإطار التقليدي، الذي اتسمت به زيارات المسؤولين الأميركيين للجمهوريات السوفياتية السابقة، وخصوصاً إذا ما تمّ ربطها بالاندفاعة «الأطلسية» الجديدة في البلطيق، وما تشهده العلاقات الروسية ــ الأميركية من تصعيد مطرد.
والواقع أنّ الولايات المتحدة عمدت خلال الفترة الأخيرة إلى تسخين جبهة البلطيق، من خلال زيارات سياسية مكثفة، دشّنها السيناتور جون ماكين في كانون الأول الماضي، وسلسلة تحركات عسكرية، أبرزها إجراء مناورات عسكرية تحاكي هجوماً روسياً على «ثغرة سوالكي»، الواقعة في شمال شرق بولندا، والتي يعتبرها الخبراء العسكريون خاصرة رخوة، باعتبار أن أي هجوم روسي يستهدفها، سيؤدي إلى عزل دول البلطيق الثلاث.
وفي تحرّك أكثر استفزازاً، أصرّت الولايات المتحدة على أن تترافق المناورات العسكرية مع نشر منظومات «باتريوت» الصاروخية، وهي خطوة لطالما نُظر إليها على أنها من «المحرّمات» في منطقة البلطيق.
التحركات الأميركية، استدعت رداً مقابلاً، اتخذ خلال الأسبوع الماضي منحى متقدماً، حين نظمت روسيا مناورة عسكرية في البلطيق، بمشاركة صينية غير مسبوقة، حملت رسالة سياسية مباشرة، مفادها بأن التعاون العسكري الروسي ــ الصيني لم يعد مقتصراً على الإطار التقليدي في المحيط الهادئ، بل يمكن أن يمتد، إذا ما اقتضت الضرورة، إلى مناطق أخرى، تتجاوز البلطيق، لتصل إلى المحيط الأطلسي عبر الطريق البحري الشمالي، بحسب ما يؤكد العديد من الخبراء العسكريين الروس.
وفيما اتسمت المناورات، التي جرت من خلال مركز عمليات مشتركة في ميناء بالتيسك في كاليننغراد، بمشاركة ثلاث سفن صينية، فإنّ طبيعة القطع البحرية الروسية التي ظهرت في البلطيق، كانت بمثابة رسالة تحدّ لـ«الأطلسي»، ولا سيما الطراد النووي الصاروخي «بيوتر فيليكي»، والغواصة الأكبر في العالم «ديمتري دونسكوي»، وهي مخصصة لنقل صواريخ عابرة للقارات.
وإلى جانب ذلك، تواصل روسيا استعداداتها لإجراء مناورة «زاباد (غرب) ــ 2017»، خلال شهر أيلول المقبل، بمشاركة بيلاروسية، في تحرّك عسكري، بدأ يثير قلق جمهوريات البلطيق، وخصوصاً أن رقعته ستشمل مناطق قريبة من الحدود الليتوانية.
وانطلاقاً من ذلك، فإن دول البلطيق لا شك في أنها ستحتفي بزيارة بنس، باعتبارها رسالة إلى الروس، مفادها «نحن نراقبكم». وفي المقابل، فإن روسيا ترى في زيارة نائب الرئيس الأميركي، وما يمكن أن تشهده من تصريحات «عدائية»، خطوة استفزازية جديدة، من شأنها أن تؤجج التوتر القائم أصلاً، على المستويين الاقليمي والدولي.
وبرغم ذلك، فإن ثمة من يعتقد بأن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن سيناريو تصعيدي، يجر منطقة البلطيق إلى حافة الهاوية، فسيناريو من هذا القبيل يبقى رهناً بخطوات أكثر تطرفاً مثل نشر سلاح نووي تكتيكي، أو عناصر منظومة الدرع الصاروخية على مقربة من الحدود الروسية. ومع ذلك، فإن حالة السيولة السائدة في هذه المنطقة الحساسة تدفع البعض إلى توقع هبوب العاصفة في أي وقت!