لا يشبه المسار الذي اتّبعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، خلال الأيام الماضية، السياسة التي سار وفقها منذ بداية ولايته الأولى. كان قد روّج، على مدى ثماني سنوات، لمنهج "عقلاني"، "بعيد عن المواجهة المباشرة"، مصنّفاً ذلك بأنه نوع آخر من المقاربات التي تصلح تجربتها.
إلا أن أعلانه، أول من أمس، مجموعة عقوبات ضد روسيا، على خلفية مزاعم بأن هذه الأخيرة تدخلت في الانتخابات الأميركية، ومن دون تقديم دليل واضح على ذلك، يرسم نوعاً آخر من السياسات التي يسعى على أساسها إلى توجيه ضرباته إلى خلفه دونالد ترامب. وهو في هذا المجال عمد إلى الاستفادة من عوامل عدة لتمضية أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، واضعاً نصب عينيه التسلية في عرقلة مهمة ترامب، تارة من خلال استغلال توتراته السابقة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وطوراً بالاعتماد على خصومته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
الخطوة التي اتخذها أوباما بمعاقبه 35 دبلوماسياً روسياً، تشكل سابقة في عهده، فيما يعدّ هذا الرقم الأكبر منذ عام 2001، عندما طُرد 50 مسؤولاً روسياً من الولايات المتحدة على خلفية قضية تجسّس. وإن كان أوباما قد استند في اتهاماته لروسيا إلى معلومات من الاستخبارات الأميركية، فقد أصدر مكتب التحقيقات الاتحادي (إف بي آي)، أمس، تقريراً يمكن وصفه بأنه أقلّ من أن يكون دليلاً مثبتاً ضد روسيا. ويتضمّن عيّنات من "شيفرة خبيثة" يعتقد بأنها استخدمت في حملة واسعة للتسلّل إلى أنظمة كمبيوتر. وذكر مكتب التحقيقات، في تقرير من 13 صفحة، شاركت وزارة الأمن الداخلي في إعداده، أن جهاز الأمن الاتحادي الروسي أرسل، بدءاً من منتصف عام 2015، رابطاً خبيثاً لأكثر من ألف مستقبِل منها أهداف حكومية أميركية. ورغم أن وزارة الأمن الداخلي ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية سبق أن قالا إن روسيا وراء الهجمات الإلكترونية، التي وقعت في تشرين الأول، لكن هذا التقرير هو أول تحليل فني مفصّل تقدمه الحكومة، وأول بيان رسمي من الـ"إف بي آي". ولكن مسؤولين أميركيين لفتوا إلى أن التقرير لم يذكر بالاسم الجهات التي تم التسلّل إلى أنظمتها، ولم يتناول النتائج التي توصلت إليها الاستخبارات المركزية و"إف بي آي". مع ذلك، واصل أوباما سياسة المماطلة؛ فبحسب مصدر مطّلع، يعدّ هذا التقرير عرضاً تمهيدياً لتقييم مفصّل سيصدر عن أجهزة الاستخبارات الأميركية، كان الرئيس الأميركي قد أمر بالانتهاء منه قبل أن يترك منصبه الشهر المقبل.

دعم قادة الحزب الجمهوري
في الكونغرس العقوبات
التي فرضها أوباما

وفي مواجهة ذلك، كان من اللافت تعامل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع التحرّك الأميركي بهدوء، إذ إنه استبعد طرد أحد رداً على قرار واشنطن. وأشار إلى أنه سيدرس أفعال الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي يتولى السلطة الشهر المقبل، حين يتخذ قراراً بشأن الخطوات في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. وكان قد سبق تصريح بوتين إعلان وزارة الخارجية الروسية أن الوزير سيرغي لافروف اقترح عليه أن تطرد موسكو 35 دبلوماسياً أميركياً، وأن تمنع الدبلوماسيين الأميركيين من استخدام منشأتين في موسكو. ولكن بوتين رفض خطة لافروف، وقال في بيان: "لن نطرد أحداً"، مضيفاً أنه يعتبر العقوبات خطوة أخرى لتقويض العلاقات بين موسكو وواشنطن، ومعبّراً عن أسفه لإنهاء إدارة أوباما فترتها بهذه الطريقة. وقد تلقّف ترامب هذا التصريح، واصفاً بوتين بأنه "شديد الذكاء" في تعامله مع العقوبات الأميركية. وأشار إلى أنه ينوي عقد لقاء مع ممثلين عن الاستخبارات الأميركية. وقال إنه "حان الوقت في بلادنا للاهتمام بأشياء أكبر وأفضل من هذه. ومن أجل مصلحة بلادنا وشعبنا العظيم أنا سأعقد لقاءً مع قادة استخباراتنا، الأسبوع المقبل، ليطلعوني على الحقائق بشأن هذا الوضع". في هذه الأثناء، ركّزت الصحف الأميركية على تصرّف أوباما؛ فقد رأى بيتر نيكولاس في صحيفة "وول ستريت جورنال" أن عقوبات أوباما ضد روسيا تشكّل تحدياً لخطط ترامب، خصوصاً أن من أبرز وعوده في السياسة الخارجية إقامة شراكة فاعلة مع روسيا، وتحويل خصومة قديمة إلى حلف في محاربة شبكات الإرهاب، وغيرها من التهديدات العالمية التي شوّهت عهد الرئيس باراك أوباما. وأشار الكاتب إلى أن هذه الرؤية أصبحت خاضعة لاختبار جديد، في الوقت الذي تواجه فيه الدولتان أسوأ أزمة دبلوماسية منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس دعموا العقوبات التي فرضها أوباما، إضافة إلى أن السيناتورين الجمهوريين جون ماكين وليندسي غراهام كشفا عن أنهما سيدفعان باتجاه فرض عقوبات أقسى على روسيا. فضلاً عن ذلك، يبدو أن المشرّعين مصرّون على إجراء جلسات استماع من أجل التحقيق في القرصنة الإلكترونية الروسية، وهو ما سيؤثر على الرأي العام الأميركي ضد القيادة الروسية التي يغازلها ترامب.
من جهتها، أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن حرب التجسس بين الولايات المتحدة وروسيا كانت مستمرة منذ انتهاء الحرب الباردة. وتطرّقت في هذا المجال إلى أمثلة عدة، منها طرد أحد المسؤولين من السفارة الأميركية في موسكو في عام 2013، على خلفية اتهامات بالتجسس. كذلك أشارت إلى طرد الولايات المتحدة لدبلوماسيين روس في عام 2010، لسبب مماثل.
(الأخبار)