تحرّك «حزب الشعب الجمهوري» بعد سنوات على لعب دور معارضة «البيانات» في مقابل هيمنة «العدالة والتنمية» على السلطة في تركيا. غداً، تنتهي «مسيرة العدالة» التي يقودها رئيس «الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، كحركة احتجاجية على تصرفات الحزب الحاكم منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، قبل عام. وليس واضحاً بعد وقع هذا التحرك على الأرض أو في صناديق الاقتراع لاحقاً، لكنّ المؤكد أن تلك المسيرة تشكل إلى حد ما اختباراً لقوة الرئيس رجب طيب أردوغان من جهة، وللمستقبل السياسي لحزب المعارضة الأساسي من جهة ثانية.
ومنذ 15 حزيران، انضم الآلاف إلى «الشعب الجمهوري» في المسيرة من العاصمة أنقرة، التي من المفترض أن تنتهي غداً أمام سجن مالتيبي في إسطنبول في تظاهرة قد تضم مئات الآلاف.
أما المحرك الأساسي للمسيرة، فكان الحكم بالسجن 25 عاماً على النائب عن «الشعب الجمهوري»، أنيس بربر أوغلو، المتهم بالتجسس لتسريبه شريط فيديو لصحيفة «جمهورييت»، قبل عامين، تظهر شاحنات للاستخبارات التركية تنقل سلاحاً لجماعات متطرفة في سوريا عبر الحدود. مع ذلك، فإن الشعار الذي يطرحه منظموها ليس فردياً، بل يطاول «الديكتاتور» أردوغان، كما وصفه كيليتشدار أوغلو، والهدف منها تحقيق «العدالة»، الشعار الوحيد الذي يرفعه المشاركون، و«إعادة إحياء الديموقراطية»، وفق تعبيره.
من جهته، لا يأخذ الرئيس التركي «مسيرة العدالة» على محمل الجد، فقد أطلق عليها تسمية «مسيرة الجهل» في مقابلة قبل أيام مع قناة «فرانس 24»، منتقداً بسخرية كيليتشدار أوغلو من دون أن يسميه بالاسم، مستخدماً تعبير «ذاك الرجل». وقال إن «ذاك الرجل» في ليل الانقلاب الفاشل في 15 تموز «هرب من المطار إلى بلدة بكركوي حيث اختبأ في منزل العمدة التابع لحزبه... ذاك الرجل لا يسعى إلى العدالة».

صورة سيئة


أحد عوامل إخفاق الحزب الكمالي
على مدى عقود
هو إرثه التاريخي


في الواقع، إن كيليتشدار أوغلو كرّس تلك الصورة الجامدة، الخالية من الدينامية، غير القادرة على جذب الناخبين، منذ تسلّمه رئاسة الحزب «الكمالي» في عام 2010، وبهذا فإن قراره السير كل تلك المسافة الطويلة، يعد حركة مفاجئة لا تعكس الجمود الذي عاشه حزبه لفترة طويلة. وبين عامي 2002 و2015، لم تتغير نسبة من يقترعون لـ «الشعب الجمهوري»، مراوحةً بين 20 و25 في المئة كحد أقصى. هذه النسبة تجعله حزب المعارضة الأساسي، لكن من دون أن يتمكن ولو لمرة واحدة منذ عام 1950، أي منذ توقف احتكاره للسلطة، من تشكيل حكومة أغلبية منفرداً.
وبعد عام 2002، خصوصاً، تتالت الإخفاقات الانتخابية لأقدم حزب تركي أسسه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال، عام 1923. وكان المسبب الأول لتلك الإخفاقات هو فشل ورثة الكمالية في وضع آليات انتخابية ناجحة، مرفقة بسيطرة تدريجية لـ«العدالة والتنمية» على السلطة. ويضاف إلى الإخفاق في وضع استراتيجية وسياسة جديدة للحزب، معاناة الحزب الكمالي من تناقضات إيديولوجية، بين جناح كمالي ــ قومي وجناح اجتماعي ــ ديموقراطي، حاول قائده كيليتشدار أوغلو التوفيق بينهما في أسلوب لا يضمن استمرارية فعلية للحزب على المدى الطويل.
من جهة ثانية، فإن عاملاً من عوامل إخفاق الحزب الكمالي، على الصعيد الانتخابي، لمدى نصف قرن تقريباً، هو إرثه التاريخي، إذ يربط عادة بنظام حكم الحزب الواحد السلطوي اللاديموقراطي الذي حكم تركيا لأكثر من عقدين، والذي كان من سماته عملية علمنة راديكالية ونظام تحديث نخبوي، فرض من القمة، متجاهلاً الواقع الاجتماعي الذي يلعب فيه العنصر الديني حتى اليوم، ومن قبل «العدالة والتنمية»، دوراً قوياً. ولم تلغِ الكمالية الدين ولم تقضِ عليه تماماً، بل استبعد عن الحياة العامة وألحق بالدولة، وظل الإسلام، كما يقول الباحث التركي هاكن يفوز، «الهوية الخفيّة للدولة الكمالية».
وعلى سبيل المثال، فقد كان أداء الأحزاب الدينية في تركيا ناجحاً في المناطق الجنوبية الشرقية الريفية الفقيرة، حيث تنتشر ممارسات إسلامية تقليدية، وبين النازحين من أبنائها إلى المدن، وهي قاعدة شعبية أسست لنجاح حزب «الرفاه» الإسلامي عام 1995، وكذلك خليفته حزب «الفضيلة» و«العدالة والتنمية» لاحقاً.


انقلاب الأدوار

قال أردوغان، في بداية حياته السياسية في التسعينيات، إن «الديموقراطية مثل القطار، تترجل عنه عندما تصل لوجهتك»، وهو قول يبدو أن الرئيس التركي يحوله إلى فعل. فعلى عكس القرن الماضي، انقلبت الأدوار اليوم بين العلمانيين والإسلاميين الذين أصبحوا أصحاب السلطة اليوم. في المقابل، بات «الشعب الجمهوري» المدافع الأول عن الحرية والديموقراطية في تركيا. وبدلاً من شعار «العلمانية»، يرفع ورثة الكمالية حالياً شعار «العدالة»، في وقت تعيش فيه تركيا أياماً أسوأ من «انقلاب عام 1980» العسكري، وفق وصف أحد المشاركين في المسيرة لشبكة «بلومبرغ» الأميركية.
ووفق مصطفى أكيول في «آل مونيتور»، فإن ابتعاد «الشعب الجمهوري» عن حمل شعار «العلمانية» الصارمة، التي أبعدت عنه 75 في المئة من أصوات الناخبين الإسلاميين المحافظين، ودفاعه عن «العدالة» أولاً، بعيداً عن إطار حزبي، قد يوسع نطاق مؤيديه. ويظهر هذا في التنوع الموجود في المسيرة، وفق صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، إذ لحظ مراسل الصحيفة مشاركة أشخاص من مختلف الأطياف الاجتماعية والسياسية في البلاد. لكن هذا لا يكفي، وفق الباحث التركي أتيلا يسيلادا، الذي قال لـ«بلومبرغ» إنّ من الصعب أن يصوّت داعمو «العدالة والتنمية» للمعارضة في الانتخابات التشريعية المقبلة عام 2019، بل قد يختارون البقاء في بيوتهم على القيام بذلك. ويضاف إلى صعوبات «الشعب الجمهوري» وتحدياته المقبلة، القيود التي تفرضها حكومة «العدالة والتنمية» على الحياة السياسية وحرية التعبير في البلاد. ومدفوعاً بفوزه البسيط في استفتاء 16 نيسان، أصبح «العدالة والتنمية» يحكم تقريباً كل جوانب الحياة في تركيا.
قد يخدم الشعار الموحد، غير المرتبط بالحزب الكمالي مباشرة، «الشعب الجمهوري» سياسياً، وستظهر الأيام المقبلة ما إذا كان سيتمكن من تغيير نمط منح استقراراً على المستوى السياسي في تركيا لمدة 15 سنة، وهي مدة زمنية بسيطة من عقود أخفق خلالها في التعبير عن أغلبية شعبية تنظر إليه بعين الشك. ولا يكفي أن تركز حملته كحزب معارض فقط على الحالة السياسية المكبلة التي تعيشها تركيا، بل هو بحاجة إلى إظهار برنامج فعلي يطاول كل صعد الحياة في البلاد، مع فهم أكبر لهويته، ليكون فعلاً المنقذ الحقيقي لتركيا.