تلقي نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية، التي منحت فريق الرئيس إيمانويل ماكرون نحو 350 مقعداً من أصل 577 في الجمعية الوطنية، بظلال الشك على التعددية التي تشكل عنصراً أساسياً في النظام الديموقراطي. فبعدما حاز حزب «الجمهورية إلى الأمام!» 308 مقاعد وحليفه «الحركة الديموقراطية» 42 مقعداً، باتت الحكومة تمتلك عدد النواب المطلوب لتطبيق إصلاحاتها، حتى تلك التي تلقى معارضة شديدة من باقي المكوّنات الفرنسية.
ورغم أن الفوز الكبير الذي حققه مرشحو حزب «الجمهورية إلى الأمام!» يعود إلى النفور من الأحزاب التقليدية، إلا أن هذه النتيجة ليست مثالية إذا أخذنا في الاعتبار نسبة الامتناع عن التصويت المرتفعة التي كانت متوقعة بعد الانتخابات الرئاسية في نيسان/أبريل الماضي، والتي بلغت حدّاً قياسياً فاق 57 في المئة وتخطّى العتبة التاريخية. فإضافة إلى المستوى الرديء للمرشحين إلى مقاعد النيابة، تدرك الفئات الشعبية جيداً عجز الطبقة الحاكمة عن معالجة حالة الطوارئ الاجتماعية (واحد من بين كل أربعة مواطنين عاطل من العمل، والمجتمع يعاني من الإفقار الشديد).
وبخلاف الحديث الإعلامي الذي يلوم الممتنعين عن التصويت، يعكس رفض المشاركة في اللعبة الانتخابية وعياً ثاقباً وإلماماً بالقضايا الاجتماعية والسياسية. وتشكل هذه النزعة المتزايدة منذ 30 عاماً أحد عوارض أزمة الديموقراطية البرلمانية. فللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، تتألف أغلبية الجمعية الوطنية الحالية، الخاضعة للسلطة التنفيذية، من مرشحين من المجتمع المدني يفتقرون إلى المؤهلات الفكرية والخبرة السياسية اللازمتين لأداء الدور التشريعي، ويتم تصويرهم رغم ذلك على أنهم الدليل الحي على التجديد ومشاركة الشباب في الحكم. فمنذ عام 1962 يسود مبدأ «حكم الأغلبية» في فرنسا، محوّلاً البرلمان إلى سندٍ للسلطة التنفيذية بما يتناقض مع دوره النقدي والرقابي المفترض تجاه الحكومة، وقد أدى ذلك إلى إضعاف تدريجي لدور البرلمان كمؤسسة مركزية في النظام الديموقراطي. لذا، فإن وصول عدد كبير من مرشحي حزب «الجمهورية إلى الأمام!» المبتدئين في السياسة، والذين فازوا بشكل أساسي بفضل انضوائهم تحت عباءة حركة إيمانويل ماكرون، يعزز تبعية البرلمان الشديدة إلى السلطة التنفيذية. باختصار، إن ما نشهده هو انتقال صريح وواضح للسلطة التشريعية إلى أيدي الحكومة.
وعلى الرغم من الأمل الذي بعثه انهيار الأحزاب التقليدية، فاتحاً الباب أمام إعادة بناء المشهد السياسي الفرنسي، بقيت الديموقراطية، بوصفها تعبيراً عن الرغبة الشعبية، شكلية ولا مكان لها في المشهد السياسي الفعلي. ويمكن ربط أفول الحياة السياسية الفرنسية بظاهرتين اجتمعتا لإنتاج هذا الواقع: أولاً، إن الرغبة في تطبيق «البرلمانية المعقلنة» لضمان الفعالية في العمل العام، قد أدت تدريجياً إلى تهميش وظيفة السلطة التشريعية، ما سمح للسلطة التنفيذية بالتفلّت شيئاً فشيئاً من مسؤوليتها تجاه البرلمان. وثانياً، أُفرِغ التمثيل الديموقراطي من معناه بسبب التوجه العالمي نحو تفكيك الدولة القومية. فإن بناء المجتمع الأوروبي وحرمان الدول من الشروط الأساسية للسيادة الوطنية، منذ توقيع معاهدتي ماستريخت وأمستردام، قد أدّيا إلى تراجع دور السلطة التشريعية الوطنية. ومن دون أدنى شك، أدى انتقال سلطة اتخاذ القرار في الشؤون التي كانت خاضعة للسيادة الملكية تقليدياً، مثل السياسة النقدية والميزانية والضرائب والشرطة والعدل والسيطرة على الحدود، إلى إضعاف قدرة الدول على اتخاذ الخيارات الأساسية في هذه المجالات، وتم فرض الكثير من القرارات من المؤسسات العليا. ولا بد من التذكير هنا بأن بروكسل، في المسائل المتعلقة بالميزانية، لطالما اعتبرت أن الإنفاق العام هدر للمال ودعت إلى ضبط المالية العامة. ولكن بالرغم من التبعات الاجتماعية المؤسفة لسياسات التقشف التي تمارسها دول منطقة اليورو، لم تغيّر أوروبا نهجها المتبع. واليوم، بعد ازدياد الضغوط على الحكومات، أجبر الاتحاد الأوروبي هذه الأخيرة على تطبيق إصلاحات شديدة النيوليبرالية، من دون أن يكون لأعضاء البرلمان أيّ رأي في الموضوع.
فضلاً عن ذلك، فقد تمّ الحدّ من صلاحيات أعضاء البرلمان أيضاً بسبب اللجوء المتزايد إلى المراسيم الاشتراعية. فبحجة تخفيف الإجراءات وزيادة فعالية العمل العام، سمحت المراسيم الاشتراعية بتبنّي سياسات تلقى معارضة شعبية واسعة وبتجنّب المناقشات البرلمانية بشأنها في الوقت نفسه. وإذا كان قرار تفويض السلطة التشريعية إلى الحكومة يعود إلى البرلمان وحده وفقاً لأحكام المادة 38 من الدستور الفرنسي، فلا شك في أن الجمعية الوطنية عندما تكون خاضعة للسلطة التنفيذية ستتخلى عن قسم من صلاحياتها وستقبل بالقيود المفروضة على دورها كمشرّع باسم الشعب. وبالتالي، يرجّح أن نرى حكومة إدوار فيليب، التي تسعى إلى إصلاح قانون العمل، تتسلم تفويضاً بالاشتراع من البرلمان لإصدار المراسيم الاشتراعية وتجنّب المناقشات النيابية ومنع أي معارضة لتوجهاتها. ونظراً إلى أن الجمعية الوطنية الحالية سوف تسمح باتخاذ هذه التدابير، سوف يُعطى الضوء الأخضر لتطبيق إصلاحات بنيوية، مثل قانون مريم الخمري (قانون العمل) الذي أنتجه ماكرون عندما كان وزيراً للاقتصاد في حكومة فرانسوا هولاند. كل ذلك ينبئ بموت فلسفة مونتسكيو. ورغم أن رؤيته لفصل السلطات، خصوصاً التنفيذية والتشريعية، ما زالت تُدَرَّس في المعاهد، إلا أنها لم تعد تُطبَّق في الحياة السياسية الفعلية. لقد تسرّب فساد السلطة التنفيذية إلى السلطة التشريعية.