ليست الدولة العميقة كياناً ملغّزاً يعمل خارج الحكومة الأميركيّة، بل هي الدولة الأميركيّة ذاتها. وعلى غرار جميع عناصر تلك الدولة، فإن الهدف من وجود ما يسمى الدولة العميقة هو تعزيز تفوّق الرأسماليّة الأميركيّة الاقتصاديّ. وهي تقوم بذلك أساساً من خلال القوى الأمنيّة المحليّة والعالميّة السريّة، على غرار مكتب التحقيقات الفيدراليّ ووكالة المخابرات المركزيّة، ووكالات استخبارات أخرى.
وتشمل عمليّات هذه الوكالات سلسلة كاملة من الأعمال تبدأ من المراقبة والدعاية، وصولاً إلى العمليّات العسكريّة السرّية والمعلنة. وبحكم طبيعتها، تعمل الدولة العميقة طبقاً لقوانينها الخاصّة؛ وهي قوانين غايتها ضمان استمراريّتها وأهميّتها. ورغم إمكانيّة المجادلة بأنّ «الدولة العميقة»، كما نفهمها، نشأت بمقتضى وثيقة الأمن القوميّ التوجيهيّة لعام 1950 (المعروفة بـ NSC-68) إلى جانب مشروع القانون المُنشئ لوكالة المخابرات المركزيّة، فإنّه يمكن، إذا ما وسّعنا دائرة الفهم، القول إنّها ربّما نشأت قبل قرن من هذا التاريخ. وبعبارة أخرى، فقد وُجدت بالفعل هيئة تعمل على حفظ الهيمنة الاقتصاديّة والسياسيّة لبعض الرأسماليّين الأميركيّين منذ القرن التاسع عشر، لكن مركزة تلك السلطة لم تبدأ بجديّة إلا في السنوات الموالية للحرب العالميّة الثانية.
بالنسبة إلى من لا يعرف ما هي وثيقة الأمن القوميّ التوجيهيّة، نشير إلى أنّها في الأساس وثيقة عسكرت الصراع بين الرأسماليّة الأميركيّة والشيوعيّة السوفياتيّة، وارتكزت على فهم صائب مفاده ضرورة نفاذ الرأسماليّة الأميركيّة بصورة مفتوحة إلى موارد وأسواق العالم بأكمله، وأنّ الاتحاد السوفياتيّ يمثّل التهديد الأكبر لذلك. ولم يكن ذلك يعني مجرّد زيادة حجم الجيش الأميركيّ، بل أن يضمن كذلك توسّع سلطة قطاع الاستخبارات من حيث نطاق عمله وميزانيتّه. وحين يتذكّر المرء أنّ تلك الفترة في تاريخ الولايات المتّحدة كانت أيضاً فترة ملاحقة مكتب التحقيقات الفيدرالي والكونغرس الأميركي لليساريّين والتقدميّين باسم نقاء أيديولوجي يميني، فإن قوّة الشرطة السرّية الأميركيّة تصبح واضحة تماماً.
وفي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كانت سلطة الدولة العميقة مستمرّة في النموّ. وقد شملت بعض مظاهرها المعروفة محاولة فاشلة لغزو كوبا الثوريّة، التي أصبحت تُعرف باسم خليج الخنازير، واستخدام عقاقير ذات تأثير نفسيّ على أفراد دون علمهم كجزء من دراسة تسعى إلى السيطرة على العقول، ومحاولات عديدة لإطاحة حكومات اعتُبِرت معادية للولايات المتّحدة تشمل عمليّات سريّة ضدّ قوات الاستقلال الفيتناميّة واغتيال الرئيس الكونغوليّ باتريس لومومبا. أما في ما يخصّ العمليّات الداخليّة التي قامت بها «الدولة العميقة»، فقد شهدت الفترة نفسها تكثيف التجسّس على مختلف الجماعات المشاركة في النضال لفائدة الحقوق المدنيّة ومناهضة الحرب، والعمل على عرقلة نشاطاتها. وقد صار عدد كبير من الأنشطة التي كانت جزءاً من العمليّة المحليّة بتوجيهات من مكتب التحقيقات الفيدراليّ تعرف باسم كوينتلبرو (COINTELPRO) [اختصار لعبارة برنامج مكافحة التجسس].
ورغم أنّ وكالات ما يسمى الدولة العميقة تعمل كجزء من الدولة الأميركيّة، فإنّ ذلك لا يعني أنّها تعمل بالعقل نفسه. فهي في واقع الأمر، وعلى غرار أيّ بنية سلطة، تحوي تمثيلاً لمختلف الأجنحة، وهذا يعني وجود اختلافات بينها حول السياسات والأولويّات والإدارة والموظفين. والثابت الوحيد الذي يجمعها، هو توافقها حول ضرورة المحافظة على سيادة رأس المال الأميركيّ في العالم. وقد حاولت السلطة التنفيذيّة، في بعض الأوقات، خلق أدوات وطرائق جديدة للالتفاف على سلطة وكالة المخابرات المركزيّة ومكتب التحقيقات الفيدراليّ التي كانت تبدو مطلقة. وفي هذا الصدد، يتبادر إلى الذهن مثالان، الأوّل هو تأسيس إدارة كينيدي وكالة استخبارات الدفاع في 1961- 1962 ومحاولة البيت الأبيض الفاشلة زمن نيكسون (التي تعرف باسم خطّة هيوستن على اسم منشئها طوم هيوستن) حين سعى الرئيس إلى مركزة إدارة عمليّات الاستخبارات الحكوميّة في يده.
لا يوجد انقلاب ناعم في العاصمة واشنطن، فقد تملكت الشركات الكبرى والصناعة البنكيّة الحكومة برمتها منذ ما يزيد على قرن، ذلك إن لم يكن منذ إنشائها. وقد سيطر المركّب العسكريّ الصناعيّ على تلك الملكيّة منذ زمن إنشاء الوكالات المذكورة تقريباً، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة. كما لا يعود دورها في الاهتياج الحاليّ بشأن روسيا ومايكل فلين إلى استيلائها على الحكومة، بل إلى أنّ قيادتها الحاليّة تمثّل أجنحة في المؤسّسة الأميركيّة الحاكمة كانت قد أزيحت من السلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016.
إنّ ترامب لا يعادي ما يسمّى الدولة العميقة، لكنّه يعارض استخدامها ضدّه وضدّ جماعته. فالأجنحة التي يمثّلها ترامب في عالم السلطة الرأسماليّة ليست هي الأجنحة نفسها التي كان يمثّلها الرؤساء الذين خدمهم مدير مكتب التحقيقات الفيدراليّ السابق جيمس كومي ــ أي الأجنحة التي مثّلها بوش وأوباما. ويعرف ترامب أنّه في حال تمكنه من تنصيب أفراد في مناصب رئيسيّة في مكتب التحقيقات الفيدراليّ ووكالة الاستخبارات المركزيّة ووزارة الأمن الداخليّ وغيرها من الوكالات (الأمنيّة والعسكريّة)، فإنّه سيتمكّن هو وحلفاؤه من استخدامها ضدّ خصومهم. ومن المرجّح أنّه سيقوم بتعزيز سلطة تلك الوكالات بشكل كبير، وهو ما سيؤكّد استهزاءه بالدستور الأميركيّ. وإذا ما تمكّن ترامب من تجيير وكالات الدولة العميقة لمصلحة الأجنحة التي يمثّلها ــ إمّا بتنحية عدم الموالين له أو مداهنتهم وإجبارهم على تغيير ولائهم ــ ستصير تلك الأجهزة في نظره مكسباً عظيماً. وهو لا يختلف في هذا عن أي رئيس أميركيّ آخر، فهو يدرك أنّ من يسيطر على الدولة العميقة يسيطر على الولايات المتّحدة. فالصراع الذي نشهده بين مكتب التحقيقات الفيدراليّ وبيت ترامب الأبيض ليس سوى جزء من صراع نفوذ بين نخب السلطة الأميركيّة.
وحين تعيش الطبقة الحاكمة أزمة، كما هي حالها الآن، فإنّ وظيفة اليسار لا تكون في اختيار طرف منها ضدّ الآخر، ولا في قبول السرديّة التي يقدمها أحد الأجنحة الحاكمة، وخاصّة حين تكون سرديّة داعمة للدولة البوليسيّة. وبدلاً من ذلك، فإنّ وظيفة اليسار هي النفاذ إلى جذور الأزمة، وتنظيم المقاومة في وجه الطبقة الحاكمة نفسها.

رون جاكوبز ــ عن «كاونتر بانش»
ترجمة حبيب الحاج سالم