باريس | يحظى المثقفون في فرنسا بسلطة معنوية بالغة التأثير. وهو تقليد أرسته الثورة الفرنسية (1789)، ثم أُعيد إحياؤه في أتون الحرب ضد الفاشية والنازية في النصف الأول من القرن العشرين، ليتخذ لاحقاً منحىً يسارياً وثورياً في أعقاب انتفاضة الطلبة الباريسية، في أيار 1968.
من فيكتور هوغو (1802 ــ 1885) إلى جان بول سارتر (1905 ــ 1980)، ومن إميل زولا (1840 ــ 1902) إلى بيار بورديو (1930 ــ 2002)، تنوعت التجارب وتعددت الرؤى بخصوص «وظيفة المثقف» ودوره في المجتمع. وظيفة لخّصها هوغو في «واجب قول الحقيقة للحاكم باسم المستضعفين». واجبٌ أضاف إليه زولا، من خلال مرافعته الشهيرة في «قضية دريفوس» (1889)، مفهوماً مستجداً تمثل في «التزام المثقف» بـ«الانخراط في قضايا الناس والمجتمع، باستعمال السلطة المعنوية التي اكتسبها في المجال الثقافي».

أونفري: التصويت لماكرون معناه
انتصار داعية
الحروب، برنار ليفي


هذا التقليد، الذي شكّل واحدة من السمات المؤسسة لـ«الثقافة الفرنسية»، استعاده أندريه مالرو (1901 ــ 1976)، ومنحه نفَساً إنسانياً، من خلال تأييد نضالات الشعوب الأخرى ضد الاستعمار، في «الهند الصينية» (1923 ــ 1924)، ثم ضد الفاشية من خلال تأسيس «الأولية الأممية»، التي حاربت إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ــ 1937).
من تجربة المقاومة ضد الفاشية، انبثق مفهوم جديد لـ«المثقف الثوري»، جسّده لويس أراغون (1897 ــ 1982) ورفاقه في «جمعية الكتاب والفنانين الثوريين» المقربة من الحزب الشيوعي الفرنسي، والتي تأسست في آذار 1932، وضمت في صفوفها أسماء لامعة ومتعددة المشارب، من أندريه بريتون (1896 ــ 1966) إلى أندريه جيد (1869 ــ 1951)، مروراً بالتشكيلي فرانسيس جوردان (1879 ــ 1958)، والسينمائي رينيه زوبار (1902 ــ 1979). جمعية لعبت دوراً ريادياً في تكريس مفهوم «المثقف العضوي» اليساري، وفق التصور الغرامشي.
من معطف هذه التجربة انبثق «مثقفو اليسار الثوري» الذين اتخذوا من الحي اللاتيني معقلاً لهم، بعد اندحار النازية. وقد شكّل الثنائي جان بول سارتر (1905 ــ 1980)، وسيمون ديبوفوار (1908-1986)، أيقونة هذا «العصر الذهبي» لـ«سلطة المثقفين»، الذي استمرت إشراقته إلى غاية ظهور موجة «الفلاسفة الجدد»، في منتصف السبعينيات.
هذه الموجة، التي شكّل برنار هنري ليفي (1948 ــ ...) وأندريه غلوكسمان (1937 ــ 2015)، رموزها الأكثر استعراضاً وكاريكاتورية، لم تكتفِ بتصفية حساباتها مع جيل سارتر ورفاقه، من منطلق «قتل الأب»، بل سعت إلى التملص من الإرث الماركسي بأكمله، تحت لبوس التبشير بـ«يسار ديموقراطي مناهض للتوتاليتارية». منزلق فكري زجّ بها، بعد ربع قرن، في أحضان «المحافظين الجدد»، وذلك تحت مطية «التدخل الإنساني» الذي استُغلَّ لتبرير الحروب الاستعمارية الجديدة، من كوسوفو (1999) إلى أفغانستان (2001)، ومن العراق (2003) إلى ليبيا (2011).
في مواجهة المنحى التحريفي لأدعياء «الفلاسفة الجدد»، تصدى جاك دريدا (1930 ــ 2004) لـ«تفكيك مطبات اللغة والخطاب بوصفهما أنماط تعبير أو دفاع عن حقوق المسحوقين». وتنبأ صاحب «نار الرماد» (منشورات النساء ــ 1999) بأنّ الطعنة التي غرزها «الفلاسفة الجدد» في ظهر «المثقف الثوري» لن تكون قاتلة، لأن «مثقفين نقديين جدداً»، من أمثال إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي، أسّسوا لـ«راديكالية مغايرة، وإن كانت تفتقر إلى الأفق الثوري».
في خلال العشرين سنة الأخيرة، تعايشت في فرنسا نماذج عدة لـ«المثقف النقدي». بعض هؤلاء ابتعد، بالفعل، عن «الأفق الثوري»، كأقطاب مدرسة العلوم الإنسانية: بيار بورديو (1930 ــ 2002)، إدغار موران (1921 ــ ...)، إيمانويل تود (1951 ــ ...)، وغيرهم. بينما تمسك آخرون بـ«الطوباوية الثورية»، ومنهم دانييل بن سعيد (1946 ــ 2010)، الذي أسهم في تأسيس «الحزب الجديد المعادي للرأسمالية»، عام 2008. وقد كان ينادي بأنَّ «على المثقف أن يلعب، على الدوام، دور سلطة مضادة». وستيفان إيسيل (1917 ــ 2013)، الذي كان أحد محرّري «شريعة حقوق الإنسان» الصادرة عن الأمم المتحدة، عام 1946، والذي أطلق عام 2010، وهو في الثالثة والتسعين من العمر، حركة «الغاضبون» العالمية، المنادية بـ«انتفاضات سلمية عالمية، للمطالبة بتوزيع أكثر إنصافاً للثروات».
بالطبع، هناك في طليعة هذه الفئة من مثقفي «الثورية الجديدة»، آلان باديو (1937 ــ ...)، الذي يُعدّ من المرجعيات المؤسسة لحركات «اليسار المناهض للعولمة». ومن مفارقات الحياة الثقافية الفرنسية أنّ الجمهور الواسع في «بلد فولتير» لم يكتشف هذا «الفرنسي الأكثر مقروئية في العالم الأنغلوساكسوني» إلا في فترة متأخرة. وبالذات، بعد كتابه المدوي «ما الذي يحمل ساركوزي لواءه؟» (2007)، الذي اعتبر فيه أن «وظيفة المثقف تكمن في المرافعة دفاعاً عن الحقيقة ضد رأي الأغلبية».
بالرغم من الخلافات المزمنة و«المعارك الصغيرة» التي تُمزّق الأوساط الثقافية الفرنسية، منذ ظهور «الفلاسفة الجدد»، ظلت «سلطة المثقف» قائمة كمرجعية أخلاقية يُحتكم إليها في خلال الأزمات والأحداث العصيبة. تجسّد ذلك عبر حركة «No Pasaran» (لن تمرّوا!)، التي جندت قرابة مليون شخص في شوارع باريس، وأكثر من مليونين في المدن للفرنسية الأخرى، في خلال تظاهرات عارمة لقطع الطريق أمام «اليمين المتطرف» إثر تأهُّل جان ماري لوبن إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة عام 2002. وبرزت أيضاً عبر الحراك الاجتماعي المناهض للشطط الساركوزي (2007 ــ 2012)، ثم لخيانات «اليسار الرخو» في عهد فرنسوا هولاند. وبالأخص في أثناء الاحتجاجات المناهضة لقوانين ماكرون (آب 2015) الليبرالية المغالية.
لكن هذا الحراك لم يقتصر فقط على الجانب المطلبي أو الاحتجاجي، بل اتخذ أيضاً منحىً إنسانياً ينادي بالتسامح وشجب العنف والحقد الديني. وقد بلغ أوجه في خلال التجمعات العارمة التي أقيمت في باريس، إثر الهجوم الإرهابي على صحيفة «شارلي أيبدو»، في بداية 2015.
لكل هذه الأسباب، ساد الاعتقاد إثر تأهُّل مارين لوبن إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، في 23 نيسان الماضي، بأن «سلطة المثقفين» ستعود إلى الواجهة مجدّداً، لتلعب الدور الريادي المعهود في حشد الرأي العام الفرنسي لقطع طريق الإليزيه أمام اليمين المتطرف.
لكن شخصية ماكرون المثيرة للجدل، وتوجهاته السياسية الملتبسة، جعلت غالبية المثقفين ــ باستثناء برنار هنري ليفي وما بقي معه من سلالة «الفلاسفة الجدد» ــ ترى فيه «مرشح العولمة الزاحفة» التي تسعى إلى إقامة «فاشية مالية». وهذا ما جعل غالبية المثقفين يشجبون «الابتزاز» المتمثل في المطالبة بتزكية ماكرون بحجة قطع الطريق أمام لوبن، معتبرين أن ذلك أشبه بـ«تخيير الناخبين بين الطاعون والكوليرا»!

يكاد يكون مؤسس ميديابارت، إدوي بلانيل، الوحيد من رموز اليسار «الراديكالي» الذي تمسك بفكرة تفعيل «الجبهة الجمهورية» لقطع الطريق أمام لوبن، حتى لو استدعى ذلك التصويت لمصلحة ماكرون. إذ يرى صاحب «قول لا» (منشورات «دون كيشوت» ــ 2014) أنّ التصدي للوبن «يقتضي التصويت لماكرون يوم 7 أيار، لا تأييداً لبرنامجه، بل دفاعاً عن الديموقراطية بوصفها الفضاء الذي يضمن لنا حرية الاحتجاج، حتى ضد سياسات ماكرون نفسه. أما مع اليمين المتطرف العرقي والمتسلط، فإنّ المساس بهذه الحقوق الأساسية سيكون حتمياً».
من جهته، اعترض المفكّر (الفيلسوف) ميشال أونفري، على دعاة «الجبهة الجمهورية» ضد لوبان، وتهجّم بشدة على ماكرون، قائلاً إنه «من خلال مقولاته الجوفاء، التي وصلت إلى حد إنكار وجود ثقافة فرنسية، نجح في استمالة كل من هم بلا ثقافة. وهؤلاء باتوا أغلبية عددية في البلاد». وأضاف صاحب «أركيولوحيا الحاضر» (منشورات «غراسيه» ــ 2003) أنه لن يصوّت لماكرون، لأنّ فوزه «معناه انتصار داعية الحروب، برنار هنري ليفي، ومستأجر أرحام الغير، بيار بيرجيه، وخبير السرقات الأدبية المدان من قبل القضاء، جاك أتالي، وسارق السارق الآنف الذكر، ألان مينك، ورئيس حكومة الخيانات، مانويل فالس، وطبيب أكياس الأرز، الذي ليس سوى كيس أرز بين الأطباء، برنار كوشنير، ومغتصب الأطفال في القرن الماضي، دانييل كوهن بنديت. أي بعبارة أخرى، انتصار كل عرّابي وغلاة السياسات الليبرالية التي سمحت لمارين لوبن بأن تكون حاضرة في الجولة الثانية من هذه الانتخابات، التي لا تتضمن في الواقع سوى جولة واحدة»!
المفكر إيمانويل تود، الذي اشتهر سابقاً بحديثه عن انهيار الاتحاد السوفياتي قبل عشر سنوات من حدوثه، رأى أنّ «حظوظ لوبن في الفوز ضعيفة للغاية، لكن أنصار ماكرون يتعمدون تهويل هذا الخطر، لابتزاز الناخبين». وأضاف أنّ «الاقتراع للوبن معناه تزكية الغزينوفوبيا (معاداة الأجانب)، وحين أقول ذلك أحاول أن أكون مهذباً، فأنا في الواقع أقصد العنصرية. ومع ذلك، سأقاطع الجولة الثانية من الانتخابات، بكل بهجة. ولن أبالي بحملات التخويف التي يروّج لها أنصار ماكرون بهدف جرّنا إلى التصويت لهذا الشيء (machin) العاري، الذي لا هو من اليسار ولا من اليمين». ويعلن تود: «لن أرضخ للابتزاز، سأختار المقاطعة، ولا يهمني إن كان هناك خطر أو لا. فليحدث ما يحدث»!
الأصوات الوحيدة المنادية بالتصويت لماكرون خرجت من «الأكاديمية الفرنسية» العتيقة. لكنها لم تخلُ، بدورها، من النبرة النقدية لماكرون وما «يرمز إليه». الروائي جان دورموسون (1925 ــ ...)، الذي يوصف بأنه «المثقف اليميني الوحيد المحبوب في فرنسا»، نشر مقالة في «الفيغارو»، بعنوان: «سأصوّت لماكرون». وبرّر هذا الخيار، قائلاً: «أرى أن الفرنسيين، بعد أسبوع من الجولة الأولى، وقبل أسبوع من اقتراع الحسم، لا يتنفسون السعادة. فالماضي يثير في أنفسهم الحزن، والمستقبل يخيفهم. وهم محقون في ذلك، لأن كارثة تلوح في الأفق». وخلص صاحب «وأنت يا قلبي لمن تدق؟» إلى القول إنه «منذ سنين طويلة تُخاض المعركة ضد اليمين المتطرف بشكل بائس. فبالرغم من انتقادها وشيطنتها وعزلها، باتت الجبهة الوطنية تمثّل واحداً من كل أربعة ناخبين، وربما واحداً من كل ثلاثة فرنسيين. ومع ذلك لا تحظى بأي تمثيل في الهيئات السياسية للبلاد. هؤلاء الناخبون فرنسيون مثل الآخرين، ويجب احترامهم. أما أفكار الجبهة الوطنية، فيجب التصدي لها بكل ما أوتينا من قوة. لذا، لن نختار المقاطعة يوم الأحد المقبل، بل سنصوّت لماكرون، لا حباً بأفكاره أو لما يرمز إليه، بل لأن وصول لوبن إلى الحكم سيكون مصيبة، لا لفرنسا وللفرنسيين وحدهم، بل لأوروبا بأكملها، وربما للعالم أجمع، الذي ينظر إلينا في هذه الأثناء بكثير من الذهول».

تود: حظوظ لوبن ضعيفة، لكن أنصار ماكرون يهوّلون
لابتزاز الناخبين


من جهته، قال عضو آخر في الأكاديمية الفرنسية، وهو «الفيلسوف» ألان فينكلكروت (1949 ــ ...)، إنه سيصوّت لماكرون لأن «فوز لوبن سيُخضع فرنسا للنار والدم». لكنه استدرك قائلاً: «إنني لن أصوّت لماكرون عن طيب خاطر. فأنا لا أرى أي شيء مثير للرغبة في مشروع المجتمع الهلامي والذائب الذي يتزعمه». وأضاف: «إننا في حقبة يجب أن نخاف فيها من التعصب الذي بات يمثله الفكر الأحادي أكثر مما يمكن أن نخشى من انبعاث الفاشية». ما يعني أنه يعتبر ماكرون أخطر من لوبن، بالرغم من اضطراره إلى التصويت له!
موقف فينكلكروت المنتقد لماكرون أثار حفيظة «صديقه اللدود» برنار هنري ليفي (بينهما خصومات شخصية مزمنة، بالرغم من ميولهما الصهيونية المشتركة)، فحمل عليه بشدة، معتبراً أنه «كان الأجدر به، وهو الذي فقد والديه في معسكرات الإبادة النازية، ألّا يوجّه عواءه إلى ماكرون، بل إلى لوبن المحاطة بالتحريفيين الذين ينكرون المحرقة».
بالطبع، لم ينتظر برنار هنري ليفي تأهُّل لوبن إلى الجولة الثانية ليعلن تأييده لماكرون. فقد وضع منذ أشهر كل ترسانته الإعلامية في خدمة «مرشح الأوساط المالية»، جاعلاً من مجلته La règle du jeu منبراً لشيطنة خصومه، وبالأخص منهم مرشح «فرنسا المتمردة»، جان لوك ميلانشون، الذي وصفه ليفي بـ«الأكذوبة التي تزعم رفع المشعل، في حين أنها تعجز حتى عن الإمساك بعود ثقاب».
الانقسام والتقاعس غير المعهودين من قبل المثقفين الفرنسيين سبّبا تصدّعَ «الجبهة الجمهورية»، التي شكلت على مدى ربع قرن حصناً منيعاً في مواجهة اليمين المتطرف. وهذا مؤشر خطير يدفع إلى الاعتقاد بأنَّ ماكرون ورعاته من أقطاب الأوساط المالية وأرباب العمل ومُلاك الصحف نجحوا، في أقل من سنة، في تحقيق ما عجز عنه «الفلاسفة الجدد» منذ ثلث قرن: اغتيال «سلطة المثقف».




أوباما ينضم... داعماً


أعلن الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما أنه «يدعم» إيمانويل ماكرون، وذلك في شريط فيديو بثّه فريق المرشح الرئاسي على مواقع التواصل الاجتماعي قبل ثلاثة أيام من الدورة الثانية. وقال الرئيس السابق في الشريط بالانكليزية «أودّ أن تعلموا بأنني أدعمه»، مضيفاً أن هذه الانتخابات تتخذ «أهمية كبيرة بالنسبة الى مستقبل فرنسا والقيم التي نتمسك بها».
(أ ف ب)