باريس | تحوّلت المناظرة الرئاسية بين مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبن، وزعيم حركة «إلى الأمام»، إيمانويل ماكرون، إلى مشادة حامية أقرب إلى الشطط الذي يطبع برامج الـ«توك شو» منه إلى الحوار الرزين المتوقع من شخصيتين سياسيتين تتنافسان على منصب الرئاسة. عنف سيُغذي الانطباع السلبي الذي عبّر عنه 72 في المئة من الفرنسيين، الذين اعتبروا غداة الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، أن الثنائي ماكرون ــ لوبن المؤهل للجولة الثانية لم يكن الخيار الأمثل بالنسبة إلى «وقار المنصب الرئاسي».
المحللون أجمعوا على أن هذه المناظرة اتسمت بتردي مستوى النقاش، مقارنة بالمناظرات التاريخية، التي جمعت ميتران بجيسكار ديستان أو شيراك، أو حتى تلك التي دارت قبل خمس سنوات بين ساركوزي وهولاند. وهذا ما يعكس تراجعاً كبيراً في مستوى الأداء السياسي، وهو ما شكّل لازمة طوال الحملة الانتخابية الحالية، حيث غلب تراشق التهم والعبارات الفاقعة على أبجديات النقاش الديموقراطي القائم على مقارعة الحجة بالحجة، بعيداً عن لغة التجريح والتخوين والشتم.
جرت العادة أن يرصد المعلقون العبارات التي ستبقى ماثلة في الأذهان بعد كل مناظرة رئاسية. ولا شك في أن عبارة لوبن التي قالت فيها «إن من سيحكم فرنسا بعد هذه الانتخابات سيكون حتماً امرأة: أنا أو السيدة ميركل»، ستبقى في الذاكرة. بينما خاطب ماكرون لوبن قائلاً: «إنك لم ترثي عن والدك الاسم فقط، بل أنت أيضاً وريثة منظومة فكرية متطرفة تتغذى من استغلال غضب الفرنسيين ومخاوفهم»، وهي عبارة ليست جديدة في مواجهة اليمين المتطرف، لكنها شكلت أداة دفاع فعالة في مواجهة مرافعات لوبن دفاعاً عن «الشعب».
موازين القوى في خلال هذه المناظرة تفاوتت وفقاً للمواضيع التي جرت مناقشتها. لوبن كانت أكثر إقناعاً وهجومية حين جرى التطرق إلى المواضيع الاقتصادية والاجتماعية. وهي سعت إلى تحميل ماكرون إرث الإخفاقات التي اتسم بها عهد فرنسوا هولاند. بينما استعاد ماكرون المبادرة، وبدا أكثر إقناعاً حين تعلق الأمر بالعلاقة مع الاتحاد والأوروبي، إذ استطاع أن يُسلّط الضوء على التباس مواقف لوبن بخصوص العملة المشتركة الأوروبية «اليورو»، ونجح في إحراج لوبن بخصوص الانعكاسات والمخاطر الاقتصادية المتوقعة في حال خروج فرنسا من منطقة اليورو، كما تُطالب.
العنف اللفظي الذي اتسمت به المناظرة يجعل من الصعب إحصاء كل الهجمات والسهام التي سعى كل مرشح لتسديدها إلى الآخر. لكن المؤكد أن ماكرون عرف كيف يستبق هجوم لوبن عليه بخصوص تصريحه الشهير في الجزائر بخصوص اعتبار الاستعمار جريمة بحق الإنسانية، ونجح في جعل حجتها تنقلب عليها، من خلال مواجهتها بتصريحاتها المثيرة للجدل حول جريمة أخرى بحق الإنسانية وهي «عملية فال ديف»، التي جرى في خلالها اعتقال مئات العائلات اليهودية الفرنسية وتسليمها للنازيين.
في المقابل، استطاعت لوبن أن تُحرج ماكرون بخصوص موقفه الملتبس من «اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية» المقرب من تيار «الإخوان المسلمين». وكانت هذه الجمعية التي غيرّت أخيراً اسمها إلى «منظمة مسلمي فرنسا»، قد نادت بالتصويت لماكرون، وهو ما رحب به الأخير. ولم تفوّت لوبن الفرصة لإبراز تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها عدد من قياديي «اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية». تصريحات اتسمت بازدراء المثليين ومعاداة السامية أشهرتها لوبن بوجه ماكرون، قائلة: «من العار أن تقبل بأن يؤيدك هؤلاء».
غالبية المطالبين بقطع الطريق أمام فوز لوبن بالرئاسة تنفسوا الصعداء بعد المناظرة، لأن ماكرون لم ينهَر أمامها، كما كان يخشى البعض. لكن لوبن نجحت في جرّ ماكرون إلى مستوى من العنف اللفظي والنقاش المتردي سيدفع المزيد من الفرنسيين، الذين يستهجنون هذا النوع من الجدل المنافي لـ«هيبة ووقار المنصب الرئاسي»، إلى مقاطعة الاقتراع أو الانضمام إلى دعاة «التصويت الأبيض»، بحجة أنّ أياً من المرشحين الاثنين ليس جديراً بالتزكية.