لندن | لم تكن ساعات قليلة قد مضت على توقيع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، رسالتها إلى الاتحاد الأوروبي بقصد تفعيل إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد ــ أو ما يطلق عليه في الصحافة «البركسيت» ــ وفق مفاعيل المادة 50 من «دستور» الاتحاد، حتى هبت على حكومتها عاصفة عاتية آتية من الشّمال بتصويت البرلمان الاسكتلندي على مطالبة لندن بتنظيم استفتاء جديد للاستقلال عن التاج البريطاني قبل انتهاء المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي خلال عامين.
وهو الأمر الذي يهدد بفرط عقد المملكة المتحدة بالكامل، بالنظر كذلك إلى طموحات الإيرلنديين الدائمة بإعادة توحيد جزيرتهم، واستعادة إقليم «إيرلندا الشماليّة» من حكم ويسمنستر.
كان التحرك الاسكتلندي متوقعاً بشكل أو بآخر، لكنه بالفعل وضع حكومة ماي تحت ضغط حاسم في وقت قصير جداً، وجاء ضمن قائمة طويلة من الضغوط السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية التي وجدت ماي نفسها في مواجهاتها منذ أن أعلنت عزمها على المضي قدماً في تنفيذ رغبة الأغلبيّة البسيطة من البريطانيين الذين عبّر 51.8 في المئة منهم عن تأييدهم لفكرة ترك الاتحاد الأوروبي في استفتاء شعبي أجري منتصف العام الماضي.

تيريزا ماي مستعدة للذهاب إلى أقصى الحدود، بما في
ذلك خيار الحرب


لم تكد لندن تفيق من صدمتها الاسكتلندية في الأسبوع الماضي، حتى عاجلتها صفعة أشد، أتتها هذه المرّة من خاصرتها الرّخوة في جبل طارق ــ المستعمرة البريطانيّة التي تشكّل أصغر مكونات المملكة المتحدة، والتي صوّتت غالبيّة ساحقة من سكانها الثلاثين ألفاً في استفتاء العام الماضي لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، إذ أصبح جليّاً أن القادة الأوروبيّين عازمون على منح إسبانيا نوعاً من حق النقض بشأن تطبيق أي اتفاق حول خروج بريطانيا من الاتحاد على مستعمرة جبل طارق المتنازع على سيادتها بين مدريد ولندن، والتي كانت سياسة الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد الأوروبي قد خففت من حدتها نسبيّاً في العقود الأخيرة. وقد تعرضت تيريزا ماي لانتقادات حادة من قبل أعضاء في البرلمان البريطاني بسبب إهمال رسالتها العتيدة إلى الاتحاد الأوروبي ذكر أي شيء بخصوص جبل طارق وحقوق السكان البريطانيين فيها.
أثار موقف الاتحاد الأوروبي امتعاضاً شديداً لدى الحكومة البريطانيّة ولدى الوزير الأول لجبل طارق فابيان بيكاردو. وغرّد وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، بعد محادثات هاتفيّة مع بيكاردو، قائلاً: «كما دائماً، فإن المملكة المتحدة باقية على دعمها العنيد، كأنه صخرة لجبل طارق»، مستلهماً كلماته عن العناد والصّخر من حقيقة أن جبل طارق وكأنه «صخرة عنيدة ضخمة وقعت من الشاطئ الإسباني في البحر».
ووصف بيكاردو في تصريحات له هذا التوجه الأوروبي بشأن جبل طارق بأنه «عمل غير مبرر وغير مقبول، وهو دون شك نتيجة جهود إسبانيّة في هذا الاتجاه». ودعا مسؤولون حكوميون آخرون في جبل طارق إلى التصدي بحزم لما سموه «الاستفزازات الإسبانيّة».
لكن الرّد البريطاني الأعنف جاء على لسان زعيم حزب المحافظين البريطاني السابق مايكل هاورد، الذي قال إنّ حكومة المحافظين بزعامة ماي مستعدة للذهاب إلى أقصى الحدود في دفاعها عن سيادتها على جبل طارق، بما في ذلك خيار الذّهاب «إلى الحرب»، مذكراً بـ«حرب الفوكلاند» الخاطفة عام 1982، والتي شنتها حكومة المحافظين في عهد مارغريت تاتشر لاستعادة تلك الجزر من الأرجنتين.
وقد نُقل عن هاورد القول إنه متأكد «أن رئيسة الوزراء الحاليّة تمتلك نفس ذلك العزم في دعمها لسكان جبل طارق»، وهو ما جعل قطاعات واسعة من المثقفين البريطانيين تُصاب بالهلع من الأجندات اليمينيّة المتعصبة التي توجه سياسة البلاد في هذه اللحظات الحرجة من تاريخها المعاصر، فيما سخر منها الصحافي المعروف بول مايسون في يوميّة «ذي غارديان»، معتبراً أن تلك التصريحات أشبه بأضغاث أحلام من أيام الإمبراطوريّة البريطانيّة الآفلة.
وزير الخارجيّة الإسباني ألفونسو داتيس، لم يستغرب الحملة البريطانيّة على بلاده، ودعا لندن إلى الهدوء وضبط النفس، معتبراً التشبيهات التي أطلقها هاورد عن «حرب الفوكلاند (بأنها) خارج السيّاق تماماً». لكنه أكّد على ما سماه حق إسبانيا بالاعتراض على أي ترتيبات بشأن الجبل في إطار مفاوضات «البركسيت» المقبلة.
الوقائع العمليّة على الأرض تقول إن جبل طارق تكاد تكون أقرب اليوم للعودة إلى السيادة الإسبانيّة منها في أي وقت مضى، ولا شك أن مدريد لن تفوّت هذه الفرصة التاريخيّة الذهبيّة التي قد لا تتكرر في عقود. فهذا النتوء الصخري الذي تنازلت عنه إسبانيا عنوة لبريطانيا في عام 1713، ويتحكم بخطوط الملاحة البحريّة عبر البحر المتوسط بوصفه يبعد 12 كم فقط عن الشواطئ المغربيّة، كان دائماً مفصلاً استراتيجياً لسيطرة بريطانيا على طرق الملاحة الدوليّة عبر المتوسط، لا تهاون في السيطرة عليه، وهي تمتلك فيه الآن قاعدة عسكريّة، وتتولى تسيير الأمور فيه من خلال سلطة محليّة تتبع لندن مباشرة. ولم يخفِ الإسبان أبداً طموحهم لاستعادة الجبل، وإن كانت تلك الأصوات خفتت نوعاً ما في ظل الاتحاد الأوروبي الذي أزال الحدود بين دوله، مما جعل الطريق مفتوحة بين الأراضي الإسبانية وجبل طارق دون نقاط تفتيش تقريباً.
وعلى الرّغم من أن بريطانيا من الناحية العسكريّة تبدو في موقف أفضل نوعيّاً من إسبانيا بجيشها الهزيل، وأن معظم السكان يرغبون بالبقاء بريطانيي الجنسيّة إلى جانب رغبتهم بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن مدريد وإلى جانب الدعم الأوروبي الثمين لموقفها، تبدو متجهة إلى تسلم مزيد من أوراق القوة الديبلوماسية والعمليّة في أي صراع محتمل حول جبل طارق: إذ أن إغلاق حدود بريطانيا المتوقع مع أوروبا نتيجة مفاوضات «البريكست» قد يعني قطع صلة (الجبل) البريّة بالعالم، وربما فرض قيود جمركيّة وتحديدات لحركة الأفراد، مما سيجعل من ثمن الاحتفاظ بالمستعمرة باهظاً في وقت تراجعت قيمته الاستراتيجية نوعاً ما بعد ما تطورت صناعة الطيران، ولا شك أنه سيعقّد أمور حكومة المحافظين في ظلّ التهديدات بانفراط عقد المملكة المتحدة بالكامل حال خروج اسكتلندا وإيرلندا الشماليّة المحتمل من تحت عباءة لندن.
السياق التاريخي يقول إن الموقف الأميركي قد يكون حاسماً في مسألة جبل طارق، كما كان في دعم بريطانيا في «حرب الفوكلاند»، وهو ما بدا الاتجاه السائد في تصريحات المسؤولين الأميركيين أثناء زيارة وزير الدّفاع الإسباني الأخيرة إلى واشنطن. لكن الأمور هذه المرة تبدو أشد تعقيداً بما لا يقاس من الناحية السياسيّة والديبلوماسيّة منها في الصراع مع الأرجنتين. لكن لعلّ ما لا يُختلف عليه أنّ تفجّر مسألة جبل طارق في هذا الوقت بالذات سيضمن للإسبان ــ وبدعم أوروبي صريح ــ جرجرة بريطانيا إلى طلاق عاصف مع الاتحاد الأوروبي، ستخرج منه المملكة المتحدة بجروح كثيرة، ربما لا تكون فيها الضغوط الاقتصادية إلا أحلاها.