باريس | لم تتورع مارين لوبن عن «قتل الأب»، أملاً في تخليص «الجبهة الوطنية» من الشيطنة، والتمويه على الخلفية الفاشية التي انبثقت منها، ما خوّلها تحويل حزبها من تنظيم عنصري متطرف إلى تنين شعبوي بثلاثة رؤوس يزحف باتجاه قصر الإيليزيه، مراهناً على يأس الطبقات الشعبية ونقمة الفئات الكاثوليكية المحافظة وتنامي الإسلاموفوبيا ومعاداة الأجانب.
منذ توليها رئاسة «الجبهة الوطنية»، في كانون الثاني/يناير 2011، تسعى مارين لوبن جاهدة لتلميع صورة حزبها، عبر تنقيتها من شوائب «الشيطنة» التي طاولتها في عهد والدها، جان ماري لوبن، الذي اشتهر بتوجهاته العنصرية المعادية للجاليات المهاجرة المقيمة في فرنسا، ومجاهرته بمعاداة للسامية، ذاهباً إلى حدّ اعتبار المحرقة النازية مجرد «تفصيل» في تاريخ الحرب العالمية الثانية.
سعت مارين لوبن، طوال أربعة أعوام، إلى «قتل الأب»، من خلال معركة ليّ أذرع ضارية انتهت بطرد جان ماري لوبن من «الجبهة الوطنية»، في آب 2015، على خلفية تصريح استفزازي كان قد أدلى به قبل ذلك التاريخ بثلاثة أشهر، قائلاً إنه «مهما كانت ادعاءات الكوسموبوليتيين (في تمليح إلى الدياسبورا اليهودية العالمية)، فإن الاحتلال النازي لفرنسا لم يكن سيئاً إلى ذلك الحد». لم تكتفِ لوبن بتنحية الحرس القديم للحزب (لوبن الأب، برينو غولنيش، كارل لانغ، جان كلود مارتينيز، إلخ...) لحساب كوادر شابة أقل إثارة للجدل (لوي أليو، فلوريان فيليبو، نيكولا باي، ماريون ماريشال ــ لوبن)، بل عملت منهجياً على إعادة كتابة تاريخ الحزب، في محاولة لنفي صفة «اليمين المتطرف» التي لازمته منذ نشأته عام 1972، لحساب توصيف أقل تخويفاً للناخبين، وهو «اليمين الوطني».

بعد فوز دونالد ترامب،
باتت لوبن تقارن نفسها
بنزيل البيت الأبيض

هذا المسعى التحريفي أعاد إلى الأذهان مسعىً مماثلاً كان قد قام به جان ماري لوبن، عام 1973، لإعادة كتابة التاريخ الرسمي لـ «الجبهة الوطنية»، عبر إنكار الخلفية الفاشية التي خرجت من معطفها، قبل ذلك التاريخ بأقل من عامين. فبخلاف ما تروّج له الأدبيات الرسمية للحزب، لم يكن جان ماري لوبن هو المؤسس الحقيقي لـ«الجبهة الوطنية». انبثقت فكرة إنشاء «الجبهة الوطنية»، في تشرين الأول/أكتوبر 1972، من تنظيم «نظام جديد» (Ordre Nouveau)، ذي النزعة الفاشية، الذي كان يتزعمه آنذاك فرانسوا دوبرا، وألان روبير. واندرج ذلك ضمن مسعى هدف إلى استلهام تجربة «الفاشيين الجدد» الإيطاليين، الذين كانوا قد أسسوا آنذاك «الحركة الاجتماعية الإيطالية»، كإطار حزبي مرخص له رسمياً، ما سمح لهم بخوض الانتخابات مجدداً، للمرة الأولى منذ حظر «الحزب الوطني الفاشي»، الذي كان يتزعمه موسيليني، في نهاية الحرب العالمية الثانية.
يروي الباحث إيروان لوكور في كتابه «شعبوية جديدة على الطريقة الفرنسية: ثلاثون عاماً من الجبهة الوطنية»، أن زعيمَي «نظام جديد»، فرانسوا دوبرا وألان روبير، اختارا جان ماري لوبان رئيساً لـ«الجبهة الوطنية» عند تأسيسها، لأنه كان وجهاً مقبولاً لدى الرأي العام، لكونه «أكثر اعتدالاً» مقارنة بأقطاب التيار الفاشي الفرنسي، وسبق له أن شغل منصب نائب في البرلمان مرتين.
لكن النتائج المخيبة التي حققتها «الجبهة الوطنية» في الانتخابات التشريعية، عام 1973، جعلت «نظام جديد» يصرف النظر عن استراتجية «التغيير الديموقراطي عبر الانتخابات»، مفضلاً العودة إلى «العمل الثوري»، ما أفسح المجال أمام جان ماري لوبن للتفرد بقيادة «الجبهة الوطنية». ثم تكرس ذلك أكثر، على إثر أحداث حزيران/يونيو 1973، التي شهدت مواجهات دامية بين فاشيي «نظام جديد» ونشطاء «الرابطة الشيوعية». وقد أدى ذلك إلى حظر كلا التنظيمين وسجن أغلب قادتهما.

مغازلة الصهاينة

على غرار ما فعله والدها، عام 1973، بعد التخلص من «تنظيم جديد»، سعت مارين لوبن عقب وصولها إلى رئاسة «الجبهة الوطنية»، عام 2011، إلى التخلص تدريجاً من عنصرية والدها ولا ساميته. وكان هدف ذلك تغيير جلد الأفعى اللوبينية، لتصبح أكثر جاذبية وقبولاً لدى الرأي العام.
لتحقيق ذلك، ابتعدت لوبن داخل البرلمان الأوروبي، الذي كانت قد دخلته عام 2004، عن تحالف الأحزاب اليمينية المتطرفة، والذي كان والدها من أبرز أقطابه (1984 ــ 2014)، لحساب تكتل أوسع من الحركات القومية والمحافظة سُمِّي «تحالف أوروبا الأمم والحريات»، وسرعان ما أسندت إليها رئاسته، في حزيران/يونيو 2015.
على الصعيد الداخلي الفرنسي، تُرجم هذا التحول بتطعيم برنامج «الجبهة الوطنية» بشعارات شعوبية ذات منحى اجتماعي (معاداة العولمة، والتنديد بهيمنة الأسواق المالية العالمية، المطالبة بالخروج من منطقة اليورو، والدعوة إلى سياسات اقتصادية وقائية لإنقاذ البنية التحتية للصناعة الفرنسية، إلخ...)، بهدف اجتذاب الطبقات الشعبية اليائسة من خيبات اليسار الاشتراكي. كذلك تبنى الحزب خطاباً محافظاً وطهرانياً سعى من خلاله إلى استمالة الفئات التقليدية الكاثوليكية الناقمة من «الشطط الحداثي» الذي طاولها في عهد نيكولا ساركوزي، الذي شهد أول طلاق في الإليزيه في تاريخ الجمهورية الفرنسية، وأول وزير جاهر بمثليته، وهو فريدريك ميتران. ثم تفاقم الأمر، بالنسبة إلى هؤلاء الناخبين الكاثوليك، في عهد فرنسوا هولاند، مع سن قانون زواج المثليين.
هذه الاستراتيجية الهادفة إلى تخليص «الجبهة الوطنية» من «الشيطنة»، أثمرت انتصارات انتخابية مدوية بدأت في حزيران/يونيو 2012، بعودة الحزب اللوبيني إلى قبة البرلمان الفرنسي، للمرة الأولى منذ عام 1986، حيث أحرز مقعدين، أحدهما لحفيدة جان ماري لوبن، ماريون ماريشال ــ لوبن، والثاني للمحامي المثير للجدل جيلبير كولار. ثم تأكد هذا التوجه أكثر مع اكتساح «الجبهة الوطنية» الانتخابات الأوروبية، في أيار 2014، مختطفة 24 مقعداً، لتتفوق بذلك على كافة الأحزاب الفرنسية الأخرى، وتصبح «القوة السياسية الأولى في البلاد»، كما تزعم رئيستها، بمخزون يقارب 30 في المئة من الناخبين.
لم تكن تلك المنجزات الانتخابية لتتحقق لولا إعادة تطبيع العلاقات بين الجبهة اللوبينية والاستبلشمنت السياسي والإعلامي المهيمن في فرنسا. تطبيع حققته مارين لوبن من خلال خطوات عديدة ومدروسة سعت من خلالها إلى مغازلة الأوساط الصهيونية العالمية، منذ «اللقاء التاريخي» الذي جمعها، في أيلول/سبتمبر 2011، بالسفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة. وهو اللقاء الذي حاولت لوبن، من خلاله، الإعداد للقيام بزيارة رسمية للدولة العبرية. لكن الفكرة لم تلقَ ترحيباً في تل أبيب.
بالرغم من ذلك، وفي نهاية السنة نفسها (2011)، عاودت لوبن الكرة، منتدبة زوجها، لوي أليو، لزيارة القدس المحتلة. بالتزامن مع تلك الزيارة، أدلت لوبن بحديث إلى «هآرتس» أكدت فيه أن «الجبهة الوطنية تناصر الصهيونية». لكنّ أياً من الشخصيات الرسمية الإسرائيلية لم تقبل باستقبال لوي أليو، ولا أي موفد آخر عن «الجبهة الوطنية»، بالرغم من المحاولات المتكررة، منذ أعوام. وكانت آخرها «الزيارة الخاصة» التي قام بها الرجل الثالث في «الجبهة الوطنية»، نيكولا باي، للقدس المحتلة، في27 كانون الثاني/يناير الماضي، حيث التقى ممثلين عن «حزب الليكود».
لكن الجدل الذي أثارته تلك اللقاءات أرغمت حكومة تل أبيب على غسل يديها من شبهة التعامل مع الحزب اللوبيني. واضطرت الخارجية الإسرائيلية إلى إصدار بيان نفى حدوث «أي اتصالات رسمية بين الحكومة (الإسرائيلية) و«الجبهة الوطنية» الفرنسية، بسبب أيديولوجيا هذا الحزب وتاريخه».

تنين بثلاثة رؤوس

بعد فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، باتت مارين لوبن تقارن نفسها بنزيل البيت الأبيض. وبلغ بها الأمر إلى حد الذهاب، من دون موعد، إلى «ترامب تاور» في نيويورك، أملاً بأن تلتقي ترامب بالصدفة، لتلتقط صورة معه.
لكن الموقف الكاريكاتوري، الذي رصدته عدسات المصورين لمارين لوبن، وهي جالسة في كافتيريا «ترامب تاور»، ترصد عن كثب احتمال مرور ترامب، لا يمنع أن بين الرئيس الملياردير والأفعى اللوبينية أوجه تقارب عدة. فمخزونهما الانتخابي يتشابه إلى حد كبير، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل حتى على المستوى الجغرافي.
للظفر بمفاتيح البيت الأبيض، استند ترامب إلى مخزونين انتخابيين مختلفين. تمثل الأول في ما سُمّي «حزام الشمس»، أي الولايات الأميركية الجنوبية المعروفة تاريخياً بتوجهها اليميني المعادي للسود والملوّنين. بينما سُمّي المخزون الثاني «حزام الصدأ»، في إشارة إلى الولايات العمالية في شمال وشرق الولايات المتحدة، والتي كانت الأكثر تضرراً من تفكك البنية الصناعية تحت تأثيرات العولمة الزاحفة.
على المنوال نفسه، لا تزال الأفعى اللوبينية، بالرغم من تغيير جلدها وتجميل صورتها، تحرص على مخزونها الانتخابي التقليدي في «حزام الشمس» الفرنسي، أي في المقاطعات الجنوبية الأكثر يمينية وعنصرية، بفعل احتضانها لغالبية النازحين من الضفة الأخرى للمتوسط، بعد جلاء الاستعمار، في الستينيات. ورغم تخليها ــ ظاهرياً ــ عن الخطاب العنصري والمعادي للسامية، فإنّ مارين لوبن تحرص على اجتذاب هؤلاء «الناخبين البيض»، من خلال ثيمات عنصرية جديدة من قبيل «منح الأفضلية للفرنسيين في سوق العمل والإعانات العمومية»، واللعب على وتر الإسلاموفوبيا، فضلاً عن التحريض على فساد النخب والأوساط المالية المهيمنة.
بموازاة ذلك، حققت «الجبهة الوطنية»، منذ أن تسلمت مارين لوبن قيادتها، اختراقاً متزايداً للمخزون الانتخابي العمالي في مقاطعات «حزام الصدأ» الفرنسية، في شمال وشرق البلاد. وهي المناطق الأكثر فقراً، وقد شهدت هزات متتالية وقاسية، منذ ربع قرن، بداية من توقف العمل المنجمي فيها، ثم تفكك البنية الصناعية، مع مطلع الألفية الجديدة، بعدما شرّع الاتحاد الاوروبي أبوابه أمام العولمة المتوحشة.
وقد بينت نتائج الانتخابات الأوروبية، عام 2014، والانتخابات المحلية الفرنسية، عام 2015، انقسام المخزون الانتخابي لـ«الجبهة الوطنية» بالتساوي بين مقاطعات «حزام الشمس» و«حزام الصدأ». لكن انتخابات الرئاسة التي ستجري في نيسان/أبريل المقبل، ستشهد بروز رأس ثالث لهذا التنين اللوبيني، وذلك من خلال ما بات يسمى ناخبي «حزام العفة»! وهم الناخبون المحافظون الذين ينتمون إلى الفئات التقليدية الكاثوليكية، التي كان فرنسوا فيون قد نجح في استقطابها في خلال الانتخابات التمهيدية اليمينية. لكن الفضائح المالية التي طاولت مرشح «الجمهوريين» جعلت غالبية هؤلاء الناخبين ذوي النزعة الطهرانية المحافظة يلتفتون نحو «الجبهة الوطنية»، وخاصة أنها تضم تياراً كاثوليكياً قوياً تتزعمه حفيدة الأب المؤسس، ماريون ماريشال ــ لوبن.