تشكّل الحملة الانتخابية الحالية في فرنسا دليلاً جديداً على الانهيار التام لليسار الفرنسي المفكّك والفاقد للمصداقية إلى حد بعيد. صحيح أنّه لا يمكن حصر هذا اليسار بالحزب الاشتراكي، إلا أنّ هذا الأخير يبقى المكوّن الأكثر تأثيراً بين التيارات اليسارية الفرنسية.
ووسط كثرة المرشحين الاشتراكيين، أخرجت انتخابات الحزب الاشتراكي التمهيدية 6 متنافسين من السباق الرئاسي، بينهم رئيس الوزراء السابق مانويل فالس، الذي بنى حملته على أساس هوياتي يجسّد تيار المحافظين الجدد داخل الحزب. وقد سمح ذلك لبنوا هامون بالظهور كنقيض لكل ما يمثّله فالس، إذ يعتبر كثيرون أن فوزه يشكل فرصة لإعادة إحياء الحزب الاشتراكي المتهاوي. فهامون، في عيون البعض، يشكل الأمل الأكبر في التغيير اليوم، ولكن لا يكفي تأهل مرشّح جيد لإعادة الشرعية إلى حزب يرى كثيرون أنه يعاني من فساد أيديولوجي. فاليسار الفرنسي يثير منذ عدة سنوات قضايا عنصرية، ما جعله بالتالي ناطقاً باسم التيار الجمهوري المحافظ، خصوصاً مع إصراره على رؤية للعلمانية يعتبرها البعض معادية للإسلام. لذا، يمكن القول إن اليسار الفرنسي قد تقوقع في رؤيته الهوياتية للأمور بهدف حرف الأنظار عن فشله التاريخي في الحكم.
ويخرج بنوا هامون ورئيس «جبهة اليسار» جان لوك ميلانشون، من كنف هذا اليسار بصورة «المنتفضَين»، ولكنهما في الواقع يعكسان التناقضات التي تحملها الرؤية السياسية التائهة بين الليبرالية و«الإنسانية».
يجسّد جان لوك ميلانشون وبنوا هامون راديكالية زائفة، فهامون هو في النهاية مرشح الحزب الاشتراكي ومصمّم برنامج يبدو، ظاهرياً فقط، أنه يحمي مصالح الشعب والفئات التي تعاني من التمييز، مثل اللاجئين. فسياسة «الدخل الشامل»، وهي الطرح الأساسي للمرشح الاشتراكي، تبدو مبتكرة وثورية، إلا أنها في الواقع أبعد ما تكون عن هاتين الصفتين. فالبديل الوهمي الذي تقدّمه سياسة «الدخل الشامل» هو فكرة ليبرالية تعود جذورها إلى القرن الثامن عشر ويمكن ملاحظتها في كتابات علماء اقتصاد ليبراليين مثل ميلتون فريدمان. وهذا الطرح، الذي لا يحقق المساواة التي يدعيها إذ إنه يفيد فئات المجتمع كلها من دون تمييز، يخفي في طياته نوايا محرجة لأصحابها: فهو يهدف في نهاية المطاف إلى إعادة النظر في نظام الحماية الاجتماعية، إذ إن المقابل المفترض للدخل الشامل هو وقف المساعدات الاجتماعية. وبالتالي، فإن هذا الخطاب الجذاب والتعبوي ليس إلا جزءاً من فلسفة اقتصادية ليبرالية، وطرح بنوا هامون هذا يكفي لتلخيص النهج السياسي التاريخي لليسار الفرنسي.
فخلف التعميمات والأفكار التبسيطية، مثل شعار «أنا على عداوة مع عالم المال» الذي أطلقه الرئيس فرانسوا هولاند عام 2012، من الواضح أن الواقع الاقتصادي يشهد على انتصار الليبرالية المتطرفة. وقد تساءل كثيرون عن مصير المكاسب الاجتماعية في فرنسا إثر إدخال إصلاحات على قانون العمل، وهو الحدث الذي كشف حقيقة اليسار الفعلية بقيادة هولاند وتوجهاته التي رحّب بها عالم المال. ولدى معاينة المسألة من هذا المنظور، يتضح أن اليسار قد أدّى وظيفة حيوية للنظام الاقتصادي والسياسي الفرنسي القائم: فبفضل شرعيته التاريخية في الأوساط الشعبية، تمكّن اليسار من فرض إجراءات لا تحظى بموافقة شعبية ولم يجرؤ اليمين الفرنسي حتى على إقرارها في السابق. ولعلّ الصورة الأكثر تعبيراً عن دور هذه التوجهات في الحفاظ على النظام الرأسمالي هي وصول هذا اليسار إلى السلطة للمرة الأولى في الجمهورية الخامسة عام 1981 مع فوز فرنسوا ميتيران.

الخطاب الجذاب والتعبوي ليس إلا جزءاً من فلسفة اقتصادية ليبرالية

فنموذج الاقتصاد الرأسمالي الكينزي، الذي فقد زخمه بعد الأزمة التي واجهها في السبعينيات، تعرض لضربة قاسية في الثمانينيات مع السياسات الليبرالية التي اتبعتها مارغريت ثاتشر في المملكة المتحدة ورونالد ريغان في الولايات المتحدة. وبعد عامين من وصوله إلى السلطة، مارس الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران في عام 1983 سياسة صارمة تضمّنت اتخاذ إجراءات كانت تلقى معارضة شعبية واسعة. ومن عام 1997 حتى عام 2002، تحت رئاسة جاك شيراك، مارس رئيس الوزراء ليونيل جوسبان (اليساري) سياسة سُمّيت «ليبرالية اجتماعية» تضمّنت مشاريع خصخصة أكثر من تلك التي أقرتها الحكومة السابقة اليمينية وفرضت إصلاحات هدفها خفض النفقات والضرائب، بما يناسب كبار أصحاب العمل في فرنسا.
وإضافة إلى قضايا الفساد والاحتيال التي تورط فيها سياسيون من اليسار الفرنسي، مثل وزير الميزانية السابق في حكومة هولاند جيروم كاهوزاك، يكفي الاطلاع على سياسات اليسار الاقتصادية لفهم الاستياء الشعبي منه. فنسبة الذين امتنعوا عن المشاركة في الانتخابات والذين صوّتوا للمرشحين الراديكاليين أتت رداً على «خيانة» اليسار للطبقات التي من المفترض أن يمثل مصالحها وعلى التجربة الطويلة مع اليسار في السلطة. ولا تختلف أزمة اليسار عن الأزمة العالمية التي تعاني منها الطبقات السياسية العاجزة عن تلبية مطالب شعوبها، ما يدفع هذه الأخيرة إلى التعبير عن استيائها عبر دعم أحزاب تُعتبر «معادية للتيار السائد» مثل حزب الجبهة الوطنية الفرنسي. وبعد فشل تجربة اليسار في السلطة، لم يعد بيد النظام أي حجة تعيد له شرعيته الشعبية. ويبدو كذلك أن فرص اليسار للفوز في الانتخابات معدومة، إلا في حال تحالفه مع اليمين مرة جديدة لصدّ تقدم الجبهة الوطنية، أو في حال فوز وزير الاقتصاد في حكومة هولاند إيمانويل ماكرون في الانتخابات، فيغدو المصرفي السابق في «بنك روتشيلد» رئيساً للبلاد!